مازلتُ أتذكَّر جيدًا ذات صباحٍ مع بداية العام الدِّراسى من شهر سبتمبر عام 1956 عندما دخل أستاذ اللغة العربيَّة والدين الإسلامى الرَّاحل عبدالعظيم عبداللاه الفصل فى السنة الأولى الإعدادية، وقال إن هذه حصة الدين مع بداية العام الدِّراسى، وطلب من أشقائنا المسيحيين أن يتفضَّلوا إلى فصلٍ مُجاورٍ مع زملائهم من الفصول الأخرى لتلقِّى حصة الدين المسيحى أيضًا، فخرج أربعة أو خمسة من زملائنا، ثم قال المُدرس: «كلكم الآن تدرسون دينكم الإسلامى»، فرفع الطَّالب رحمين إبراهيم رحمين يده قائلاً: «أنا لستُ مُسلمًا»، فقال له المُدرس: «لقد خرج زملاؤك المسيحيون فمَنْ أنت؟ هل أنت مجوسى؟!»، فرَدَّ رحمين: «بل أنا يهودى مصرى»، فأسقط فى يدى الأستاذ «عبداللاه»، ولم يجد ما يقوله سوى أن يتمتم ببعض عبارات غير واضحة تدل على الحيرة وعدم القدرة على اتخاذ قرار، وكان رحمين زميلنا فى الفصل، وكُنَّا نحبه كثيرًا، ونلعب معه أثناء الفُسحة لعبة الفرسان بالمساطر بدلاً من السيوف، ولم يخطر ببالنا قط مسألة اختلاف الدِّيانة، فلم نكن واعين بها أو مهتمين بالتَّعليق عليها، وقد انتهت مُناقشة المُدرس مع رحمين بأن طلب منه أن يذهب إلى حجرة ناظر المدرسة وينتظر قرب بابه حتى يلتقيه هناك فى نهاية الحصة، وبدأت فى تلك اللحظة أسئلة كثيرة تلح على خاطرى وتدور برأسى ولم أدرك وقتها تفسيرًا لما حدث أو مغزى لأن يتوزَّع طلاب الفصل لأىِّ سبب، حتى ولو كان الانتماء الدينى، وعندما انتهت حصة الدين وعاد إلى الفصل رحمين مُبتسمًا قال: «إن ناظر المدرسة قد استمع إلى وجهة نظر المُدرس، وأنه لا يُوجد مَنْ يستطيع تدريس الدِّيانة اليهوديَّة، لذلك هو الطَّالب الأوحد فى مدرسة دمنهور الإعداديَّة، وعليه فقد تقرر أن يقضى رحمين حصة الدين فى فناء المدرسة، يلهو وحده حتى تتمكن المدرسة من تدبير ما يغطى حصة ديانته اليهوديَّة ويرصد له درجة فيها».
وما هى إلا أسابيع قليلة ونحن ننعم خلالها بألعاب الطُّفولة البريئة، ويبدو رحمين بيننا واحدًا مِنَّا تمامًا بلا تفرقة أو تمييز، فإذا العدوان الثُّلاثى يقع على مصر وتتكهرب الأجواء وتتوقَّف الدِّراسة، ونغيب شهرين تقريبًا نعود بعدها فلا نجد رحمين مرَّةً أخرى، وعندما استفسرنا عنه قيل لنا إنه قد رافق أسرته فى الرَّحيل من البلاد بعد أن شاركت إسرائيل فى جريمة العدوان مع القوات البريطانيَّة والفرنسيَّة، كرَدِّ فعل لتأميم قناة السويس، ولم نكن مُدركين بالطَّبع وقتها للمُلابسات والتَّداعيات المُرتبطة بذلك الحدث، ولكننا كُنَّا نشعر بأننا فقدنا زميلاً عزيزًا يرتبط بنا برباط براءة الطُّفولة البعيدة تمامًا عن الحياة السِّياسيَّة أو الخلافات غير المُبررة.
وبالمُناسبة فإن مدينة دمنهور تحتضن رفات واحدٍ من أولياء اليهود يطلقون عليه «أبوحصيرة»، وله مقامٌ عند قرية «دمتيوه» على مشارف دمنهور، وبالمناسبة فإن تلك المدينة واحدة من أقدم مدن الشَّرق على الإطلاق، وقد ظلَّت مُحتفظةً باسمها لآلاف السنين حتى الآن، ولقد حكى لى أحد المُؤرِّخين أنها هى المدينة التَّالية لمدينة دمشق فى الاحتفاظ باسمها الأصلى على مَرِّ العصور، ولا ندرى حتى الآن إلى أين ذهب رحمين إبراهيم رحمين ابن الجواهرجى البسيط، الذى كان يملك محلاً صغيرًا لبيع الذَّهب بسوق المدينة، ثم جاء طوفان السِّياسة ليطيح به وبغيره من ذوى الأصول غير المصريَّة، على الرغم من أنه كان من بينهم وطنيون حقيقيون ومصريون مخلصون، ولكنها السِّياسة لعنها الله، فهى تُفرِّق بين البشر وتُمزِّق أوصال وحدة الأمة، ولعلنا نتذكَّر أن اليهود المصريين كانوا جزءًا لا يتجزَّأ من نسيج الوطن، ومُعظمهم جاءوا كمُهاجرين من المغرب العربى، ومازلنا نتذكَّر أن «قطاوى باشا» كان وزيرًا لمالية مصر، وهو يهودى من أبناء الوطن، بل إن حاخام اليهود كان عضوًا فى لجنة وضع دستور 1923، فمصر بلد التَّسامح الذى يتسع لكلِّ الثَّقافات، ويستوعب كلَّ الحضارات ويضم كلَّ الديانات، وعندما أصبحتُ نائبًا بالبرلمان عن دائرة دمنهور واجهتنى مُشكلة الاحتفالات الدِّينيَّة كل عام بمولد «أبوحصيرة»، حيث يأتيه عددٌ كبيرٌ من اليهود العرب والمغاربة تحديدًا دون مُبررٍ ظاهرٍ أو تفسيرٍ معلومٍ، إلا التَّأكيد على هويَّة الضَّريح وصاحبه، خصوصًا أننا كُنَّا نتوهَّم فى العصر النَّاصرى أنه ضريحٌ لأحد أولياء الله من المغرب العربى، فإذا كانت «طنطا» تحتضن مقام «السيد البدوى»، و«دسوق» تحتضن مقام «إبراهيم الدسوقى»، و«الإسكندرية» تحتضن مقام «أبى العباس المرسى، و«قنا» تحتضن مقام «سيدى عبدالرحيم القناوى»، فإن من حَظِّ مدينة دمنهور أن احتضنت ضريحًا لرجل دين يهودى مضى على وجوده فى مكانه عدة قرون.. إنها مصر سبيكة الزَّمان والمكان، ودُرَّة كلِّ عصر وأوان.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 281
تاريخ النشر:7 يونيو 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/64257-2/