تعودنا في دراسات العلاقات الدولية والسياسات الخارجية أن نرجع إلى الوراء أحياناً باحثين عن الأحداث التي أدت إلى النتائج التي نشهدها، كما انصرف اهتمام جل الباحثين والخبراء إلى استقراء مسار التطور الذي أوصله إلى النتائج التي يشهدونها، ولكنني أظن أن الأمر مختلف، فالذي يحدث ليس بالضرورة أن يكون نتاج أحداث سابقة، بل يمكن أن يكون نتاج أفكار فرضت نفسها على مسار التاريخ، وشكلت إلى حد كبير مجريات الأمور، بحيث وصلت إلى ما وصلت إليه. وأنا أظن أن أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قدمت للبشرية قفزات هائلة من خلال التيارات الفكرية والنظريات العلمية التي أسهمت بها إسهاماً فاعلاً في حياة الإنسان، وليس هذا الذي نكتبه تحليقاً في أجواء نظرية بعيداً من الواقع، إذ إن التدقيق في الأمر يؤكد لنا أن تاريخ الأفكار هو المؤثر الأقوى في تاريخ الإنسانية كلها، وقد اخترت من ومضات تلك الفترة الأوروبية التي تلت عصر النهضة بما قدمه من فنون وآداب ومعارف واكتشافات لنرصد خمساً من الأفكار الكبرى التي انطلقت من القارة الأوروبية لتؤثر في العلوم المعاصرة والحياة السياسية أيضاً، سوف نكتب عن نظرية «مالتوس» للسكان والفكر «الماركسي» و«الدارونية» و«الفرويدية» حتى انطلاق الموجات الاستعمارية الغربية إلى الشرقين الأدنى والأقصى وأنحاء القارتين الآسيوية والأفريقية بعد عصر الكشوف الجغرافية، ونستعرض ذلك بإيجاز في النقاط الآتية:
أولاً: إن الذين تحدثوا عن «الفوضى الخلاقة» في العقود الأخيرة إنما كانوا يشيرون إلى حدث ضخم في تاريخ الإنسان وأعني به ما نطلق عليه «الانفجار العظيم» والذي يصل بسكان الأرض حالياً إلى ما يقرب من خمس بلايين من البشر، ولذلك فإن النظرية المتشائمة التي قدمها مالتوس لتحديد الحجم الأمثل للسكان ما زالت مصدراً للتشاؤم في كثير من الدول، خصوصاً تلك التي تعاني زيادة سكانية ضخمة تحول دون الاستفادة من عوائد التنمية، بل وتبتلع كل الدخل القومي، نتيجة ذلك الانفجار السكاني الرهيب، ولا شك في أن مالتوس ودركايم وغيرهما قد تأثروا كثيراً بالزيادة المضطردة في متوالية هندسية لحجم السكان في مناطق العالم المختلفة ودوله المتعددة، ولقد ارتطمت هذه الأفكار الجديدة حول التعداد السكاني في المجتمعات الزراعية والرعوية والصناعية بالموروث الثقافي الذي لم يسمح لدولها بالانطلاق والتحليق عالياً، عندما يتحقق لها الوصول إلى الحد الأمثل للزيادة السكانية، وهو ما أدى إلى مواجهة حادة بين سياسات بعض الدول والقيم الدينية المتجذرة والمفاهيم الاجتماعية السائدة.
ثانياً: ليس من شك في أن ما جاء به كارل ماركس وضمنه كتابه رأس المال Das Kapital وتبعه رفيقه فريدريك إنجلز قد أسهم في مجموعه بإحداث تغييرات هائلة في العقل البشري والقيام بعملية تحريض إيجابي للطبقة العاملة، والسعي نحو وحدتها، فضلاً عن التأثير الكبير الذي أحدثته «النظرية الماركسية» لا من خلال التطبيقات الاشتراكية وصولاً إلى المجتمع الشيوعي الخالص فحسب، ولكن أيضاً بسبب مواجهتها لتيارات اليمين المحافظ في العالم المعاصر، فضلاً عن الصدام الحتمي مع الممارسات الدينية على اعتبار أن «الدين هو أفيون الشعوب»، على حد التعبير الماركسي الشهير، ولا بد أن نقرر هنا أن «الفكر الماركسي» أدى إلى تقسيم العالم وأثر تأثيراً مباشراً في السياسات الدولية، خصوصاً بعد قيام «الثورة البولشفية» وميلاد الاتحاد السوفياتي الذي هيكله فلاديمير لينين متماشياً مع العقلية الروسية التقليدية في كل العصور القيصرية والسوفياتية والحالية، وصولاً إلى فلاديمير بوتين، وإذا كانت الكتلة الشيوعية قد انصهرت حالياً في المجتمع الدولي وسقط التقسيم التقليدي بين شرق وغرب، وانتهت سنوات «الحرب الباردة»، إلا أننا على ما يبدو مقبلون على عودة لمرحلة المواجهة بين القوى الكبرى في عالمنا المعاصر. إننا نؤكد هنا أن «الفكر الماركسي» لم يمت وسوف يظل حياً من الناحية النظرية، يمارس تأثيره في التفسير المادي للتاريخ، وإذا كانت التطبيقات الماركسية قد انهارت مع نهاية ثمانينات القرن الماضي، إلا أن الجانب الفكري يظل مستقراً في الوجدان الإنساني، ويظل مرجعية لكل دارسي التاريخ البشري وعلوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع.
ثالثاً: إن ميلاد نظرية النشوء والارتقاء لداروين يمثل تفسيراً موازياً لمراحل تطور الإنسان على الأرض، بخلاف التفسير الذي قدمته الديانات السماوية، لأن الدارونية اعتبرت أن المرور بالمرحلة الحيوانية هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الإنسان، وهو ما يتعارض مع التفسير الديني لنشأة الخليقة وميلاد الخلية الأولى للتكوين البشري، ولقد امتد تأثير الدارونية لتتجاوز إطار العلوم السلوكية، من اجتماع وعلم نفس، بل وفلسفة، لكي تضيف تفسيراً جديداً للحياة على الأرض وتصبح هي والماركسية وبعدهما الفرويدية بمثابة تيارات مادية في الفكر السياسي الأوروبي المعاصر بحيث امتد تأثيرها إلى نواحي الحياة كافة.
رابعاً: لقد عملت لسنوات سفيراً لبلادي في العاصمة النمساوية وكان يستهويني الجلوس في مقهى (لاندمان) وسط مدينة فيينا والذي تعود ارتياده سيغموند فرويد، بل كتب أجزاء من نظريته حول تفسير الأحلام والغريزة الجنسية وهو يجلس على مقعد في زاوية من ذلك المقهي وكان النادل يشير إليها كل مرة، لأن المقهى كان يعتز بأن عالماً كبيراً في حجم فرويد كان من رواده، ولا شك في أن الفرويدية مع الدارونية، إلى جانب النظرية الماركسية يمثلون جميعاً تياراً مادياً في ملفات التاريخ الإنساني كله.
خامساً: إن مراكز القوى في السياسة الدولية تغيرت من عصر إلى عصر صعوداً وهبوطاً، وفقاً لدورة الحضارات والظروف الدولية التي تسهم في ذلك، وقد كانت الإمبراطورية الرومانية في فترة من التاريخ السحيق هي المركز السياسي للكون وبرز وقتها تعبير Pax Romana أي (السلام الروماني) ثم حدثت تطورات أوصلتنا إلى عصر الكشوف الجغرافية، حيث تصدرت إسبانيا والبرتغال المشهد السياسي برمته، إلى أن ظهر عصر التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا، فآل إليهما جزء كبير من سطوة الحياة الدولية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى أن بدأت موجة انحسارهما في القرن العشرين، ولعل استقراء التاريخ يؤكد أن موجات الصعود والهبوط في المجتمع الإنساني قد اختلفت من مرحلة إلى أخرى، ولكنها ظلت تعبيراً حياً على الثقل المادي والتأثير الدولي والغطاء الحضاري.
إن ما نريد أن نصل إليه في هذا المقال هو التأكيد على العلاقة الارتباطية بين تطور الفكر الإنساني والمسار العام للسياسة الدولية ومراكز القوى عبر مراحل التاريخ المختلفة، وما زلنا نؤكد أن تاريخ الأفكار هو المتغير المستقل الذي تتبعه الأحداث مهما كانت أهميتها أو تزايد تأثيرها، وإذا تأملنا المشهد الحالي على الساحة الدولية ووصول الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب إلى سدة الحكم، فسوف يتأكد لنا سواء اتفقنا أو اختلفنا، أن هناك ظهيراً فكرياً لهذه التوجهات، حتى ولو كانت المواقف السياسية هوجاء وغير منضبطة، فاليمين التقليدي والسياسات المحافظة والرغبة في استعادة أسوار العزلة وضرب فلسفة العولمة وترجيح كفة فلسفة «صراع الحضارات» على غيرها هو ما نتوقع أن تعانيه البشرية في السنوات المقبلة، إننا إذ نستعرض بعض الأفكار الكبرى التي انبثقت عن التاريخ الأوروبي الحديث فإننا نستعيد الرؤية للحاضر الذي يمر به المجتمع الدولي، إذ يبدو أن نذر الصراعات الكبرى وربما الحروب الدامية تلوح في الأفق، لأن قيام أكبر دولة في العالم بمنع دخول رعايا سبع دول - حتى الآن- لأنهم قادمون من مجتمعات إسلامية فإن ذلك يعني بوضوح أن العنصرية والتعصب يقفان وراء هذا التفكير الانتقائي، مهما كانت الدوافع الأمنية التي أدت إليه، وسوف يستتبع ذلك رد فعل منفلت من التنظيمات الإرهابية التي تزايدت سطوتها في العقود الأخيرة. إننا أمام مشهد مضطرب نأمل بأن يعود فيه العالم إلى وعيه الحقيقي، وأن يلفظ كل التوجهات التي سمحت بالوصول إلى هذه المواجهة الساخنة على المستويين السياسي والدولي، ونحن على أبواب مرحلة تنذر بكثير من الأخطار وتدعو إلى درجة من التعقل والفهم الصحيح للتواصل الحضاري بين الأمم والشعوب، ولن يأتي ذلك إلا بتضامن دولي يقف على أرضية إنسانية صلبة وراسخة، ونود أن نؤكد هنا أننا لا نفرط في التشاؤم، ولكننا نتطلع إلى ميلاد تيارات سياسية جديدة تضع العالم على الطريق الصحيح، وتسمح بالتفكير العصري الذي ندعو إليه، ولا شك في أن المجتمعات المدنية تشكل في مجموعها الأممي ركيزة قوية في هذا الاتجاه، وصدق الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان عندما قال (إن العولمة تعني التضامن بين مؤسسات المجتمع المدني في دول العالم المختلفة وذلك حفاظاً على السلام وطلباً للأمن وسعياً نحو الاستقرار) إن البشرية في قارب واحد، ولن ينقذها من الدمار والخراب والتوتر والقلق إلا التيارات الفكرية الرائدة والابتكارات العظيمة والاكتشافات الملهمة، من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة من كل القوميات والأعراق والجنسيات والديانات، بغير استثناء أو تمييز أو إقصاء!
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 6 فبراير 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/838412/شباب/التيارات-الفكرية-والسياسات-الدولية