مازلت أتذكر تلك الأمسية فى أوائل القرن، عندما احتشد آلاف من أقباط مصر فى الكاتدرائية المرقسية الكبرى فى مؤتمر كبير برئاسة البابا الراحل شنودة الثالث وحضور عدد كبير من الشخصيات العامة والقامات الفكرية والسياسية والثقافية، وكانت المناسبة هى تأييد القضية الفلسطينية ودعم قائدها الراحل ياسر عرفات فى وقت كانت فيه إقامته محددة فى المقاطعة بـ«رام الله»، وذلك قبل وفاته بشهور قليلة، مسمومًا من جهاز الموساد.
وقد كان الدكتور أسامة الباز -المستشار الراحل لرئيس الجمهورية الأسبق- وأنا من ضمن الحاضرين الذين احتفى بهم الأقباط احتفاءً ملحوظًا، وأجرى البابا الراحل اتصالاً هاتفيًّا مسموعًا بالسيد «ياسر عرفات»، حيث عبَّر القائد الفلسطينى عن امتنانه العميق وشكره الزائد لأقباط مصر بسبب دعمهم المستمر ومساندتهم الدائمة للقضية الفلسطينية والنضال العادل لشعبه ضد ممارسات إسرائيل الإرهابية ومنها عزل عرفات ومحاصرته فى مساحة محدودة فى مدينة رام الله عقوبةً له على عدم قبوله لما جرى عرضه عليه فى «كامب ديفيد» الثانية، وقد كانت الأوضاع العربية حينذاك مُضطربة وقلقة خصوصًا بعد غياب حافظ الأسد والملك حسين عن الساحة السياسية فى المشرق العربى فضلاً عن غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق وإسقاط حكم صدام حسين.
لقد أبدى الأقباط المصريون يومها شعورًا قوميًّا رائعًا، وكان تصفيقهم للبابا بعد حديثه المباشر مع ياسر عرفات تصفيقًا ضخمًا اهتزت له أركان الكاتدرائية لعدة دقائق، وقد طلب من بعض الحاضرين إلقاء كلمات فى هذه المناسبة حيث تحدث الدكتور أسامة الباز، ثم تحدثت بعده حول القضية الفلسطينية وأبعادها وتطورها، وكان الحماس زائدًا والدعم شديدًا، ويمكن إدراك أهمية ما جرى فى تلك الليلة فى الكاتدرائية المصرية إذا علمنا أنه كان هناك بعض الضباب يغلف عروبة الأقباط، ويعطى انطباعًا بأنهم أميل إلى «مصر الفرعونية» منها إلى غيرها، مع الحديث المتكرر عن حساسية الأقباط تجاه مفهوم العروبة عمومًا واستقراره فى جوهر فلسفة الحكم فى مصر، ولم تبدأ حركة مناهضة لذلك الاتجاه إلا بجولة مكرم عبيد باشا سكرتير عام حزب الوفد فى أربعينات القرن الماضى بين مدن الشام الكبرى حيث زار حيفا وعكا وبيروت ودمشق -وذلك قبل قيام دولة إسرائيل بالطبع- حتى يؤكد انتماء الأقباط عربيًّا منذ أن أصبحت ثقافتهم الأولى هى العربية وأصبحت صلواتهم أيضًا فى الكنائس عربية اللسان، فسقطت كل الدعاوى المناوئة للموقف الطبيعى للأقباط تجاه الفكرة العربية فى مصر، ويرجع الفضل إلى البابا شنودة الثالث فى أنه انتزع الأوهام من الأذهان حتى أسماه الجميع بطريرك العرب بسبب مواقفه القومية الواضحة، ومساندته الشديدة للقضية الفلسطينية، وتمسكه حتى رحيله بعروبة القدس، وهو الذى منع الأقباط من زيارة تلك المدينة المقدسة والدخول إلى كنيسة القيامة ما دام الاحتلال الإسرائيلى مستمرًّا، وما دام المسجد الأقصى أسيرًا، وفى ظنِّى أن مواقف البابا شنودة العروبية كانت سابقة على مواقف مؤسسات دينية كثيرة فى المنطقة إسلامية ومسيحية.
وقد أمضينا فى الكاتدرائية عدة ساعات نستمع إلى كلمات حماسية من أقباط ومسلمين يدعمون الشعب الفلسطينى وقائده «أبا عمار» بلا تردد ودون تحفظ، ويجب أن نتذكر هنا كثيرًا من الفدائيين الأقباط الذين شاركوا فى صفوف المقاتلين الفلسطينيين ضد الاحتلال، ولعل النائب البرلمانى المصرى سمير غطاس هو نموذج لذلك النمط المتفرد من أقباط مصر فى الارتباط العميق بالقضية الفلسطينية والدفاع عنها، وأنا شخصيًّا أتذكر زملاء مصريين آخرين انضموا إلى صفوف المقاومة الفلسطينية ومنهم فاروق القاضى الصحفى المخضرم والراحلان د.أحمد شوقى العقباوى، ود.محمد المشد، ود.يسرى هاشم -أطال الله فى عمره- فالشعب المصرى يدرك دائمًا أن القضية الفلسطينية هى قضيته المحورية الكبرى، ومسئوليته الأولى التى لا يتخلى عنها أبدًا.
ومازالت مصر -أقباطًا ومسلمين- تمضى على ذات الطريق لأجل تسوية عاجلة لهذه المأساة المزمنة والتى دفع فيها الشعب الفلسطينى قوافل الشهداء وآلاف الضحايا.. تحية للبابا شنودة الثالث فى مستقره الأخير، وتحية لأقباط مصر على مواقفهم الوطنية ودوافعهم القومية وحرصهم الدائم على أن يكونوا جزءًا لا يتجزَّأ من النسيج المصرى، الذى يقف فى طليعة النضال ويتقدم الصفوف من أجل العدل والحرية والمساواة.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 282
تاريخ النشر:12 يونيو 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%85%d8%b8%d8%a7%d9%87%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a7%d8%aa%d8%af%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%86%d8%b5%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84/