ما دخلت الطائفية من النافذة إلا وخرجت القومية من الباب. ليست هذه عبارة إنشائية ولكنها حقيقة تاريخية، ولنتذكر الآن أخطار الانقسام في التاريخ العربي كله، إذ كانت دائماً سلبية بل ومدمرة، بدءاً من ملوك الطوائف الذين ضاعت على أيديهم الأندلس، وصولاً إلى الانقسام الفلسطيني الذي كاد أن يضع القضية برمتها في مهب الريح. والطائفية مشتقة من الطائفة سواء كانت دينية أو سياسية أو حتى ثقافية، وإذا كان مضمون الفكر القومي أنه يجمع الأمة على أرضية مشتركة تقوم على مبدأ المواطنة الكاملة للجميع، وتسقط من حساباتها الاختلافات الدينية والعرقية والثقافية، وتؤمن تماماً بأن العربي هو كل من كانت لغته الأولى العربية، أو أن أصوله تنحدر من بلد عربي حتى لو كان يعيش في الشتات، فإني أطرح اليوم قضية شائكة تتعلق بالخلافات المذهبية والانقسامات الطائفية والصراعات السياسية على الساحة العربية، التي جعلتنا ندرك أن ما نحن فيه وما نمضي عليه، ليس بالضرورة الطريق الأمثل لمستقبل أفضل، فحتى مجلس التعاون الخليجي الذي نفاخر بتجانس العضوية فيه والانسجام الكامل بين دوله لأسباب تاريخية وجغرافية وثقافية قد تعرض هو الآخر لهزة لا أظن أنها سوف تستمر طويلاً، بل إني أتصور أن الروح الخليجية سوف تطفو على السطح وتضع الأمور في نصابها، وليسمح لي القارئ بأن أطرح أمامه الملاحظات التالية:
أولاً: إن الاختلافات الدينية في العالمين العربي والإسلامي تبدو من أكثر الاختلافات سخفاً وسذاجة في الوقت ذاته، ويكفي أن نتذكر أنها وقفت وراء كثير من المشكلات المعاصرة، إذ ظهر تفسير للأديان، وهي التي نعتبرها جزءاً من البناء الحضاري للمنطقة اشترك فيه الجميع من دون استثناء ومن مختلف النحل والملل والطوائف ولم ينفرد به البعض دون الغير، ومع ذلك لاحظنا في العقود الأخيرة موجات من التطرف الزائد الذي طفا على سطح المنطقة على نحو غير مسبوق قسّم المقسم وجزّأ المجزأ كما يقولون، فوجدنا الاختلافات المصطنعة حتى داخل الدين الواحد، وسرت موجة حمقاء من التعصب الأعمى والتشدد في غير موضعه والغلو في تفسير المرجعيات واعتبار أن العودة إلى الأصول هي «صك غفران» يسمح للبعض بأن يكفر الآخر وأن يسب الشقيق ويشوه اختياراته. وتلك في ظني هي المعضلة التي يجب أن نتنبه لها، خصوصاً أن الخلافات تبدو هامشية إذا كنا نعبد جميعاً إلهاً واحداً ونبدو نتاجاً لمجموعة من حضارات المنطقة وثقافاتها التي توافدت عليها عبر القرون، فيكون من العبث التفكير الهزلي الذي يضع الأمور في غير نصابها ويصورها وكأن العودة إلى الجذور إحياء لخلافات نامت واختلافات مضت، وقديماً قال الإمام العظيم (الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها). فالتعايش المشترك والاندماج الكامل يجعلان حياة البشر أقرب ما تكون إلى شركاء السفينة الواحدة، إما أن يطفوا جميعاً أو أن يغرقوا من دون استثناء، فالحاضر مشترك والمستقبل واحد والمصير لا يختلف.
ثانياً: إن الله خلقنا من أعراق مختلفة ولم يجعل هناك خلافات جوهرية بين عرب وكرد أو أمازيغ، خصوصاً أنهم يشتركون غالباً في الدين الواحد، كما أن الأصل في حياة الأمم المختلطة الأعراق هو التعايش بمعنى أن يظل المرء مؤمناً بالانتماء الأول الذي يعلو جميع الانتماءات، ولو أننا فعلنا ذلك لأدركنا المفهوم الحقيقي لجوهر الأمة الواحدة. ويكفي أن نتطلع الى العالم حولنا لنرى تعدد الثقافات والديانات والطوائف داخل الكثير من أمم الأرض، ولكنهم نَحّوا ذلك جانباً وركزوا على المشترك الثقافي والحضاري بينهم، أما الذين سلكوا طريقاً غير ذلك فقد تعرضوا لمواجهات صعبة وتحديات دائمة.
وأتذكر أني جلست في القاهرة مع الرئيس العراقي السابق جلال طلباني أستمع منه إلى أشعار أحمد شوقي ومقتطفات من الأدب العربي في مراحله المختلفة، ما جعلني أدرك أن ذلك الزعيم الكردي هو عربي الثقافة عروبي الانتماء، ولم تمنعه كرديته من أن يكون واعياً مظاهر الانتماء الحضاري التي تجمع ولا تفرق، وتشد الجميع في اتجاه واحد لا يتراجع ولا ينتكس.
ثالثاً: إنني أراهن على أن معظم الخلافات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية تقف وراءها دائماً دوافع سياسية أو مصالح وقتية ومهما قيل غير ذلك فهو أمر لا يبدو دقيقاً ولا يعبر عن واقع الحال، فالمصالح تتصارع وتطل السياسة بوجهها الكئيب على الأمة لنرى كيف تمزق المتصل، وكيف ترتدي مسوح الدين أحياناً ورداء الخلاف المذهبي أحياناً أخرى، بينما السياسة قاطعة في كل أركان الحياة المعاصرة، وما أكثر المرات التي رأينا فيها خلافات ترفع شعارات تبدو بريئة، بينما تقف وراءها مشروعات سياسية ومصالح اقتصادية بل وأطماع ثقافية، فالحرب على الهوية هي إحدى الأدوات الجديدة، وهي جزء من كل متآمر على وحدة الأمة في عداء واضح للجوار التاريخي الذي صنعته جغرافيا المنطقة، ولقد عشنا سوياً في هذه البقعة من العالم والتي تم إطلاق المصطلح الحقيقي الجديد عليها والذي صكّته وزارة المستعمرات البريطانية باسم الشرق الأدنى ثم تطور بعد الحرب العالمية الثانية، ليحمل مدلولاً جديداً جعل الجميع يسمونه الشرق الأوسط، ويشمل غرب آسيا وشمال أفريقيا، وهذه المنطقة المهمة من العالم تقع في مركز الكون حيث ظهرت فيها الديانات السماوية وانتشرت أساطير الأولين حتى تميزت هذه البقعة بالثراء الثقافي والتعدد بين ثقافات متعددة وحضارات مختلفة، بما جعلنا ندرك وبحق أن التعددية نعمة وليست نقمة.
رابعاً: إن المشكلة الكبرى التي تواجه أمتنا وتنال من جدوى العمل العربي المشترك هي التدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية، إذ إن الأجندات التي ترتبط بكل قطر على حدة تجعله أحياناً مكبلاً لا يستطيع الخروج من دائرة الدور المرسوم له، وفي ظني أن الدول العربية في مجملها هي ذات انتماءات قومية تتصل بهويتها الأصيلة، ولكن الارتباطات بالقوى الأجنبية والمخططات الخارجية تنال من استقلالية القرار لديها وتجعلها أداة في يد من يسعون إلى توجيهها في اتجاهات تخدم المصالح غير العربية ولا تصب في خانة الأهداف القومية. ولا أريد أن أسمي دولاً بذاتها، لأننا نحترم كل الشعوب الشقيقة كبيرة أو صغيرة، فالمنطلق العروبي لا يفرق بين دولة عربية وأخرى، ولكنه بالتأكيد يفرق بين سياسات عربية وسياسات أخرى لا تخدم المصالح العليا للأمة، بل تتعارض مع مسيرة العمل العربي المشترك. ولعلي أضيف هنا حقيقة لا أنكرها هي أن العزلة القومية والدولية كلاهما غير ممكن، فالتصالح هو جزء من طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة، إذ أصبح مفهوم العزلة مفهوماً نظرياً لا نتحمس له، ولكن النضج السياسي والقدرة على حماية المصالح وترتيب الأولويات، هي أمور لا يمكن الخروج عليها أو تجاهل أهميتها. ألم يدفع العرب ثمناً فادحاً لضعف قدراتهم التفاوضية وغياب فقه الأولويات في علاقاتهم الدولية؟
خامساً: دعنا نقول صراحة إن الدولة العصرية الحديثة التي يتمتع أفرادها بالمقدار المتعارف عليه من الحريات واحترام حقوق الإنسان هي «دولة الضرورة» التي لا يمكن القفز عليها أو الحديث عن شراكة العصر من دونها، لذلك فإن الديموقراطية هي واحدة من أهم أساسيات حياة العصر وتفاعلاته والالتزام بمبادئه وقواعده، إذ إن غياب المشاركة السياسية وتكبيل الحريات وفرض المواقف والآراء على الشعوب من دون الاعتداد بإرادتهم هي خطيئة كبرى تدفع ثمنها الدول والشعوب معاً، والأمثلة كثيرة والتجارب واضحة والنماذج معروفة، لذلك فإن السعي نحو الدولة الديموقراطية المنفتحة داخلياً وخارجياً هو الطريق الأوحد نحو المستقبل الأفضل، أما السقوط في مستنقع الطائفية والوقوع في شرك الخلط بين الدين والسياسة وتوظيف الأول لخدمة الثانية فتلك جريمة متكررة ونتائجها معروفة. إننا ضد الديكتاتورية الدينية والتعصب القومي والانغلاق المحلي أو التورط في مسارات الطائفية البغيضة فقد خلقنا الله جميعاً متساوين، ولو شاء ربك لجعلنا أمة واحدة، ولكن التّعدد والتّنوع هما من سمات الحياة البشرية المعاصرة، فدعنا نلتزم الأفكار القومية المتفتحة والرؤى العصرية التي تقوم على إعلاء مبدأ المواطنة من دون تعصب طائفي أو انغلاق فكري فأبواب المستقبل أوسع وأرحب من كل ذلك.
إن مشكلاتنا التي تحولت إلى نكبات ونكسات وكوارث جاءت بسبب غياب النظرة الشاملة وضعف الرؤية الموضوعية وتفرد بعض الحكام بالقرار، كما أن الفيصل كان دائماً تحضُر الشعوب نتيجة النهضة التعليمية والصحوة الثقافية والوعي العميق بمقتضيات العصر وحاجات المستقبل.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 11 يوليو 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/845965/شباب/التيار-القومي-والعواصف-الطائفية