عندما رحل «العقاد» عن عالمنا فى مارس 1964 كتبتُ مقالاً بعنوان «مع العقاد فى السماء»، على وزن الكتاب الشَّهير للعلامة الدكتور أحمد زكى «مع الله فى السماء»، وكتبتُ مقالى هذا بجرأة الشَّباب وحماسة واحد من مُريدى المُفكِّر الكبير، وكأنه محاكمةٌ دنيويَّةٌ للعقاد فى مسيرته السِّياسيَّة والأدبيَّة والشِّعريَّة، بل وتطرقتُ أيضًا إلى حياته العاطفيَّة؛ لأننى كنتُ أظن ومازلت أن العقاد أسطورة بشريَّة تستحق الإشادة والتَّقدير، فهو بحق «نحَّات الفكرة»، وصاحب الرؤية الصَّارمة التى ترتكز على المبادئ التى لم يبرحها أبدًا، وكنتُ أدرك من كل ما قرأت له أن المرأة تُمثِّل إشكاليَّة مُوازية لحياته الفكريَّة والثَّقافيَّة، كما كنتُ أعلم أيضًا أن قلبه قد خفق وقتها لـ«مى زيادة»، الأديبة اللبنانية التى أحبَّها معظم أدباء عصرها وشعرائه، كما كنتُ أعلم أيضًا بما كان يتردد عنه من تعلُّق شديد بالفنانة الجميلة «مديحة يسرى»، ولو أن البعض كان يشكك فى تلك القصة التى لم يعترف بها العقاد صراحة، ولكن البعض الآخر كان يرى أنها قصة حقيقية تستحق الإشادة والتأمل، فالفارق العقلى والتفاوت الثقافى يجعلان الأمر غير قابل للتصديق عندما يجرى ذكره لأول مرة، ولكن الشائعة استقرت وقويت حتى رددها الكثيرون، كما تغنَّى بها بعض شعراء ذلك العصر، وذلك يؤكد أن الشائعة تدور فى بلادنا وتبدو أحيانًا أشد مصداقية من الحقيقة ذاتها.
ظلَّ العقاد فى سنواته الأخيرة شامخًا مُتألقًا حتى لحظة النهاية، فهو الذى وقف أمام الرئيس جمال عبدالناصر ليستلم جائزة الدولة التقديرية دون أن ينحنى، حيث ظل منتصبًا أمام الزعيم الراحل فى شموخ وكبرياء، وألقى يومها خطابًا مُتميزًا وراقيًا فى حضرة الرئيس المصرى الراحل ضمَّنه دراسة أدبية تقوم حول مفهوم الجائزة، وأهمية تكريم العلماء فى تاريخ الدولتين العربية والإسلامية، وتأثير ذلك على مسيرة الإنسان المُعاصر فيما يقابله من مشكلات وما يعترضه من أزمات، ولقد برهنت السنوات القليلة الأخيرة عن الأصالة الرائعة والعمق الإنسانى الذى يتمتع به بعض الفنانين والفنانات فى إطار الولاء المشترك للوطن الأم دون تفرقة أو تهميش أو إقصاء.
ولقد شاءت الظروف أن أتعرَّف على الفنانة الحسناء مديحة يسرى، وأن ألتقيها فى مناسبات مختلفة، وفى إحداها سألتها سؤالاً مباشرًا عن حقيقة قصة حب العقاد لها، وكنتُ أظن أنها سوف تنفى ذلك، ولكننى فوجئتُ بها تبتسم فى دلال وسعادة، وتقول: «لقد كانت أيامًا ومضت.. رحم الله الأستاذ العقاد»، وقد قرأتُ كثيرًا بعد ذلك عن العلاقة الوثيقة بين الأدب والشعر والفن، فذلك «الثالوث» يقف على قدم واحدة يتمحور حولها كل عناصر الريادة التى يتطلَّع إليها الجميع فى إجلال وازدهار، ولقد كانت العلاقة بين الأديب الكبير «عباس العقاد» والفنان التشكيلى الكبير «صلاح طاهر» علاقة وثيقة، حتى أن العقاد عندما اكتشف أن الفنانة الشابة لا تبادله الشعور نفسه بحكم التفاوت فى العمر والاختلاف فى الثقافة طلب من «طاهر» أن يرسم له لوحة تعكس تجربة العقاد الذاتية، وترفعه عن تناول طعام تحوم حوله حشرات، فقد ظلَّت تلك اللوحة الرمزيَّة فى منزل العقاد حتى رحيله، وفى ذلك تأكيدٌ على أهمية التَّضافر بين الآداب والفنون لتصوير المشاعر والتَّعبير عن الأحاسيس.
ولقد استطردتُ يومها فى كتابة الحوار الذى أتطلَّع إليه؛ ليكون وثيقة باقية لمشاعر شاب مصرى كان لا يزال طالبًا فى الجامعة، وهو يعبِّر عن تعلُّقه الشديد بالمُفكِّر المصرى الراحل بكل التزام وأدب وموضوعية، وتخيَّلت وقتها أن المُحاكمة الإلهية التى جرت للعقاد فى السماء كانت تصفية نهائيَّة للتوازن بين «العقاد» المُفكِّر و«العقاد» الإنسان، وعندما عرضتُ ما كتبت على بعض أساتذتى أصابهم نوعٌ من القلق، ورأى فيها بعضهم مقدمة فى الإلحاد، بينما يعلم الله وحده أننى كنتُ ومازلت أكثر إيمانًا بالخالق من كثيرين تحوَّل تدينهم إلى نوع من نفاق الناس قبل أن يكون خشوعًا للخالق وتسليمًا بالإيمان المُطلق تجاه الجانب الروحى فى أديان السَّماء.
رحم الله «عباس محمود العقاد» و«مديحة يسرى»، فهما معًا فى السَّماء.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 283
تاريخ النشر: 19 يونيو 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%83%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d9%8a%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d8%a7%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d8%a8%d8%a9/