أثارت انتخابات اليونيسكو الأخيرة من جديد الشعور بالدهشة بل والاستهجان أن يكون التنافس عربياً - عربياً وليست هذه هي المرة الأولى، فقد سبقتها انتخابات اليونيسكو منذ عقدين من الزمان عندما ترشح لإدارة المنظمة الوزير السعودي الراحل الدكتور غازي القصيبي والمصري الدكتور إسماعيل سراج الدين نائب رئيس البنك الدولي الأسبق ثم مدير مكتبة الإسكندرية بعد ذلك، ويومذاك خسر الاثنان وإن كانت مصر لم ترشح الدكتور سراج الدين ولكنّ دولاً أفريقية رشحته حينذاك، وهذه المرة كانت الوزيرة المصرية السابقة الدكتورة مشيرة خطاب هي مرشحة مصر بامتياز وحماس شديدين، وكان المرشحُ الآخر مثقفاً خليجياً معروفاً هو الدكتور حمد الكواري وزير الثقافة الأسبق في قطر بالإضافة إلى مرشح عراقي انسحب قبيل التصويت وأخرى لبنانية انسحبت أيضاً أثناء السباق، وانتهى الأمر بأن أدى التنافس العربي إلى فوز الوزيرة الفرنسية اليهودية الديانة والمغربية الأصل وخسر المرشحان العربيان لأننا نفتقد التنسيق في المناصب ولأن جامعة الدول العربية، بحكم ظروفها وأوضاعها، لا تستطيع أن تفرض اختياراً عربياً واحداً لكل منصب دولي بحيث يقبل جميع الأطراف قرار مجلس الجامعة ولو على مستوى المندوبين. والأمر في ظني يحتاج إلى وقفة تأمل لأنه تأكيد بأن العرب غير قادرين على الدخول في المجتمع الدولي بصوت واحد، ولقد عانينا من ذلك طويلاً وبحّ صوتنا تأكيداً واهتماماً ولكنّ للأمر جذوراً سندركها إذا تأملنا المناصب الإقليمية والدولية وموقف الدول العربية منها ونطرح ذلك من خلال المحاور الآتية:
أولاً: إن منصب أمين عام جامعة الدول العربية أصبح حكراً على دولة المقر وقد طالبت دول عربية كثيرة بضرورة تدوير المنصب واتخذت الجزائر في ذلك موقفاً ريادياً منذ عادت جامعة الدول العربية إلى مقرها الأصلي في القاهرة من مقرها الموقت في تونس، ولكن كانت المحصلة أن تولى وزير خارجية مصر الدكتور أحمد عصمت عبدالمجيد المنصب مثلما تولاه قبله محمود رياض وزير خارجية مصر الأسبق أيضاً، ثم استمر التقليد لوزراء خارجية مصر عمرو موسى ونبيل العربي وأحمد أبو الغيط، وهم شخصيات لا يشكك أحد في كفاءتها كما أن تاريخها الديبلوماسي ناصع ولكن الاعتماد المستمر لهذه الصيغة قد أدى إلى إحساس عام بين العواصم العربية بأن المصريين يريدون أن يحيلوا الجامعة إلى مؤسسة مصرية! وإذا كان ميثاق جامعة الدول العربية قد اختار القاهرة مقراً لها، فإن ذلك لا يشترط بالضرورة أن يكون الأمين العام مصرياً، ومن استقراء التاريخ ندرك أن الملك عبدالعزيز آل سعود هو صاحب اقتراح ترشيح الأمين العام الأول عبدالرحمن عزام المصري الجنسية ولكن القاهرة استمرأت التقليد الذي ظل قائماً حتى الآن، ولا بأس أن يكون الأمين العام من دولة المقر شرط كفاءته وخبرته فضلاً عن دوران المنصب من فترة الى أخرى، فمنصب الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي حازه ممثلون لدول إسلامية آسيوية وأفريقية، بل كان آخرهم تركي الجنسية إلى أن تقدمت المملكة العربية السعودية بمرشح من مواطنيها فكان ذلك مقبولاً لأنه لا يؤسس لقاعدة في ظل دوران المنصب، ولقد انتقدنا فرنسا عندما قدمت مرشحتها التي فازت بمنصب مدير عام اليونسكو مع أننا ابتدعنا ذلك التقليد مع الفارق في الظروف والأوضاع.
ثانياً: لقد ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة أكثر من ست أو سبع من الشخصيات الديبلوماسية العربية، كما ترأس البرلمان العربي أيضاً أكثر من ثلاثة من العرب ووصل المصري محمد البرادعي إلى منصب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية لفترات عدة، وسبقت ذلك الضربة الكبرى بوصول المصري بطرس بطرس غالي إلى منصب أمين عام الأمم المتحدة، كما حاز العرب مناصب عديدة في المنظمات الدولية والوكالات المتخصصة وبرز دور بعض الديبلوماسيين العرب ليكونوا مبعوثين للمنظمة الدولية في المشكلات الكبرى من أمثال الأخضر الإبراهيمي وغسان سلامة وغيرهما ممن تصدوا للمشكلات الإقليمية عن دراية وخبرة، لذلك لا ينبغي للعرب الصياح في كل مناسبة قائلين إن هناك من يقف ضدهم ويتعمد استبعادهم، فذلك يحدث فقط بسبب تفرقهم وتباين مشاربهم وتحويل المنافسة الدولية إلى منافسة عربية - عربية.
ثالثاً: إذا كان ثلثا العرب يعيشان في أفريقيا، إلا أن الاهتمام العربي في المنظمات الدولية والإقليمية بتلك القارة المهمة ما زال دون المستوى، وتلك محنة حقيقية صنعت حساسيات كامنة بين العرب والأفارقة على رغم كثير من الجهود المبذولة في هذا السياق خلال السنوات الأخيرة، ولكن لا يزال الوجود العربي في الاتحاد الأفريقي هامشياً بدعوى التفرقة بين شمال الصحراء وجنوبها.
رابعاً: إن غياب وجود جماعات ضغط عربية في الدول الكبرى ما زال يمثل نقصاً واضحاً يحول دون وجود تأثير واضح للشخصية العربية في المجالات العالمية، التي تدفع بالضرورة إلى تصدر المواقع الدولية وتجعل للعرب شعبية ما زالوا يفتقدونها حتى الآن، ولقد ساهمت الموجات الإرهابية في السنوات الأخيرة في تعزيز هذا الأمر حتى خضع العرب للظلم مرتين، مرة من المعاناة من الإرهاب ومرة من اتهام الآخرين العربَ بممارسته!
خامساً: إن هناك من يحاول تجريد العرب من مقومات يملكونها ولكن لا يجب أخذ ذلك كمبرر للتقاعس، وأنا أذكر يوم انتخاب بطرس بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة أن ذكر معلق بريطاني في محطة إذاعية مهمة أن بطرس غالي انتخب أميناً عاماً للأمم المتحدة وهو عربي ولكنه ليس مسلماً، وهو أفريقي ولكنه ليس أسود، وهو مصري ولكنه ليس مواطناً عادياً بحكم ثروته وعراقة أصله، فكأنهم يريدون تجريد أول عربي يصل إلى أكبر منصب دولي من مقوماته الحقيقية وأعمدة تكوين هويته الباقية.
سادساً: لا تتحمس إسرائيل غالباً للوجود العربي في المواقع الدولية الحاكمة إلا في حالات خاصة لأفراد يقبلون بها وشخصيات يمكن أن تتعاون معها، فهم يبحثون في سجل المرشح ليجدوا ثغرة تؤدي إلى استبعاده، وهناك تجربة الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق في مصر عندما قررت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل إسقاطه والحيلولة بينه وبين منصب مدير عام اليونسكو ولو بصوت واحد بدعوى أنه قال ذات يوم في أحد أروقة البرلمان المصري رداً على سؤال مستفز من أحد الأعضاء الذي رأى كتباً إسرائيلية في إحدى المكتبات فكان رد الوزير: إن ذلك ليس صحيحاً ولو كان فأنا مستعد لإحراقها، وواضح أن العبارة انتزعت من سياقها ولم يكن الوزير يقصد المعنى الحرفي لما قاله، كما أن الوزير الفنان اعتذر علناً وفي صحيفة فرنسية عن ذلك، ولكن اللوبي الأميركي - الإسرائيلي كان قد اتخذ قراره بمنع وصوله إلى المنصب، وأظن أن شيئاً من ذلك حدث هذه المرة في منع أي مرشح عربي من الوصول إلى إدارة اليونيسكو على رغم أن المنظمة في أضعف أحوالها وأسوأ ظروفها ولكنها في النهاية تعبير عن رمز يحتضن ثقافات المجتمع الدولي وحضاراته.
سابعاً: إن التعاون بين الأجهزة الديبلوماسية في الدول العربية لا يبدو قائماً بطريقة صحية، إذ يغلب عليه أحياناً طابع المنافسة والرغبة في الارتباط بأجهزة ديبلوماسية أخرى خارج الإطار العربي تفضيلاً لها وتوهماً بمصلحة منها، ولا شك في أن مرحلة توقيع مصر على اتفاقيات «كامب ديفيد» هي نموذج شاهد على حالة التفكك الديبلوماسي التي حصلت ونوعية التراشق الإعلامي الذي ساد، كما أن هناك محاذير بين الديبلوماسيات العربية مردها غياب التنسيق أو تأخره فضلاً عن اختلاف النوايا وتضارب المصالح ولو ظاهرياً.
إنني أبغي من التطرق إلى هذا الموضوع أن أوجه الأنظار إلى أننا كعرب نلوم غيرنا والعيب فينا، إذ إن حسن الاختيار للشخصيات المرشحة للمناصب المختلفة والتنسيق بين الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية من الأمور التي تبدو ضرورية حتى لا نبكي على اللبن المسكوب كل مرة، ويجب أن يكون لدينا مرشح عربي واحد لأي منصب حتى يحترمنا الآخرون ويدركوا أننا أصبحنا أمة رشيدة تعرف مصالحها وتتجنب تكرار أخطائها. وبهذه المناسبة، فإنني أزعم متأكداً أن كل الدول العربية من دون استثناء لديها كفاءات في المجالات كافة ولم يعد الأمر حكراً على دولة أو حفنة من الدول، فقد شب الصغار عن الطوق وأصبحنا أمام شعوب عربية تتقارب كفاءة مثقفيها وخبرة متعلميها ولا يوجد في المنظمات ميراث لدولة أو لمجموعة على حساب الباقين، وبهذا المنطق وحده يمكن أن نتقدم بثقة الى المناصب الدولية المختلفة مع الأخذ في الاعتبار أنه إذا لم يكن لدينا مرشح عربي قادر على المنافسة ويحمل اسماً دولياً مقبولاً فلا داعي للتقدم كل مرة للمناصب ذاتها، وليس عيباً أن نقول إنه لا يوجد لدينا مرشح عربي مناسب لهذه الوظيفة أو تلك في إحدى المرات، فليست القضية هي ملء الفراغات ولكن القضية هي الدفع بالكفاءات.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 30 أكتوبر 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/847081/شباب/الدول-العربية-والمناصب-الدولية