عندما ذهبت جائزة نوبل إلى آبى أحمد رئيس وزراء إثيوبيا وقبله إلى باراك أوباما فى الشهر الأول لتوليه الرئاسة فى البيت الأبيض اقتنعت أن الجائزة سياسية بامتياز ولم تعد تعبيرًا حقيقيًا عن شخصيات تستحقها، فإذا كانت جائزة نوبل فى الآداب ذات طابع دورى بين الثقافات المختلفة، وإذا كانت نوبل فى العلوم البحتة تذهب إلى مستحقيها، إلا أن جائزة نوبل للسلام قد خضعت فى السنوات الأخيرة للأهواء السياسية وابتعدت إلى حدٍ كبير عن الموضوعية والحياد والالتزام بالذهاب إلى من يستحقها، وإن كان ذلك لا يعنى أن الكثيرين ممن حصلوا عليها لا يستحقونها أيضًا، وفى مقدمتهم الأم تريزا راعية الفقراء فى الهند والرئيس أنور السادات بطل الحرب والسلام وغيرهما ممن خدموا الإنسانية، وأتذكر بهذه المناسبة أن السياسى البريطانى الداهية ونستون تشرشل قد حاز جائزة نوبل فى الأدب وليس فى السياسة أو الدبلوماسية، رغم أنه قد لعب دورًا كبيرًا فى سياسات الحرب العالمية الثانية، كما أن حصول الشاعر البنغالى الكبير رابندرانات طاغور على تلك الجائزة عام 1913 يشير هو الآخر إلى مصداقية الجائزة فى بعض الأحيان، ولكن يبدو أنها انحرفت عن المسار فى العقود الأخيرة وخضعت لعبث الأهواء وميول القوى الدولية المتحكمة فى مسار الأحداث حاليًا، كما أن الجائزة تخضع لمواءمات معروفة وحساباتٍ تجافى الموضوعية أحيانًا وتبتعد عن الحياد أحيانًا أخرى، وقد تخطت هذه الجائزة على سبيل المثال أسماء مثل طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم فى الأدب العربى من مصر ولم يجرؤ أصحاب الجائزة على تخطى اسم توفيق الحكيم لكى تذهب الجائزة إلى أديب أولاد حارتنا إلا فى العام التالى لرحيل الحكيم فلقد كان منحها لغيره فى حياته أمرًا صعبًا، لأن أب المسرح المصرى وكاتب الرواية الفلسفية فى عالمنا العربى كان ولايزال الأجدر بها فهو صاحب أهل الكهف وعصفور من الشرق ويوميات نائب فى الأرياف وغيرها من الروائع، ولحسن الحظ أن الجائزة وصلت فى النهاية لأديبٍ كبير له وزنه من خلال استغراقه فى المحلية وتعبيره عن الحارة المصرية فكان محفوظ نوبل شهادة للأدب المصرى والعربى والإفريقى، إننى أكتب هذه الخواطر ولدى شعورٌ عميق بأن الحياد القومى والدولى معًا لم يعد لهما وجود، وأنه يمكن تمرير أى قرار حتى لو لم يكن متماشيًا مع السياق العام للأحداث، وهل كان يتصوّر بعضنا أن تصبح إسرائيل ضيفًا مرحبًا به فى عالمنا العربى بين عشية وضحاها؟! وهل كنا نتصور أن يهدد رئيس روسيا الاتحادية باستخدام الترسانة النووية لبلاده فى إشارة غامضة لإرهاب باقى الأطراف؟!إنه عالم يبدو كالغابة المفتوحة يلتهم فيها الكبير الصغير ولايوجد قانون يمنع أو عقوبة تردع! إننا أمام تغيراتٍ هائلة فى موازين القوى كما أن الدول تتموضع فى أماكنها من جديدويتصرف بعضها بعصبية الحكام على نحوٍ يهدد الأمن والسلم الدوليين، وإذا كانت الجوائز العالمية تذهب لغير مستحقيها فإنها بذلك تكون مرآةً لعصرٍ يدعو كل ما فيه للمزيد من القلق والتوتر والإحباط، فى ظل مستقبلٍ غامض للجنس البشرى كله، ولنا فى هذا الموضوع بعض الملاحظات:
أولاً:إن الجوائز الكبرى تذهب أحيانًا لشخصياتٍ ليست هى الأكثر بريقًا والأشد لمعانًا، ولكنها تسعى إليهم هروبًا من منافساتٍ محرجة وصراعاتٍ كبيرة، وينسحب نفس الأمر على المستوى المحلى أحيانًا فقد حصل الدكتور يونان لبيب رزق – وهو مؤرخٌ له وزنه الكبير – على جائزة النيل العليا من المجلس الأعلى للثقافة فى مصر فى وقتِ كانت تسمى فيه جائزة مبارك عندما تنافس عليها مسئولان كبيران هما الدكتور أحمد فتحى سرور رئيس مجلس الشعب فى ذلك الوقت والأستاذ إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام آنذاك، عند ذلك تدخل الرئيس الراحل وطلب منهما الانسحاب فآلت الجائزة إلى ذلك المؤرخ الراحل الكبير الذى يستحقها أيضًا.
ثانيًا: إن ذهاب جائزة ما لشخصٍ بذاته لا يعنى أن من لم يحصلوا عليها لايستحقونها، وإنما هى معادلاتٌ تخضع لاعتبارات ليست بالضرورة هى الأكثر عدلاً بل قد تكون أقل موضوعية، فالأحكام البشرية ليست دائمًا نقية وخالصة بل تتدخل فيها عوامل معقدة يصعب تفسيرها، ولحسن الحظ فإن المجلس الأعلى للثقافة فى مصر يتجه لتعديلات فى قانونه تصبح معها جوائز الدولة أكثر عدلاً وأشد مصداقية. وإن كنًا نلاحظ فى السنوات الأخيرة تراجع حجم التقدم لجائزة الدولة التشجيعية خصوصًا فى الموضوعات العلمية التى يجب أن تكون جاذبة للشباب وليست طاردة له كما هو الحال الآن، وهنا ترتبط قضية جوائز الدولة بمستوى التعليم السائد ونوعية الدراسة المتاحة مع ضرورة التركيز على العلوم الحديثة والدراسات العصرية.
ثالثًا: إن لجان ترشيح الجوائز الكبرى - دولية ومحلية – تحتاج إلى قدرٍ كبير من الوعى لطبيعة كل جائزة والفهم الصحيح لشخصية صاحبها مع تحكيم الموضوعية والبعد عن الشخصنة وتجنب الأهواء سياسية كانت أو جغرافية، فالعلم لا وطن له والفكر نتاج إنسانى يشترك فيه الجميع.
.. هذه نظرات خاطفة فى قضية يتكرر الحديث عنها ولايتوقف الاختلاف حولها، لأنها تعبيرٌ عن ضمير العلم وما يراه العلماء فيما يستحق ومالا يستحق، إنها نداء عاجل للابتعاد عن الشبهات والتحليق فى سماء النقاء والشرف والشفافية.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/846664.aspx