ابن بار للعسكرية المصرية ارتبط نجاح حركة الجيش ليلة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 بخطأ وقع فيه عندما حرك قواته قبل موعدها وكان ذلك هو الضمان الذى أدى إلى نجاح العمليات العسكرية فى تلك الليلة الخطيرة من تاريخ مصر الحديث، ولقد أتاحت لى الظروف فى مطلع شبابى أن ألتقى ذلك الوطنى الفذ واليسارى المعتدل فى العاصمة البريطانية فى شهر أكتوبر عام 1971 حيث وصلت إلى مدينة الضباب حينذاك أنا وزوجتى بعد زفافنا بأقل من عام لأتسلم عملى ملحقًا دبلوماسيًا ونائبًا للقنصل فى البعثة المصرية فى العاصمة البريطانية، وقد استقبلنا مسئول الشئون الإدارية فى القنصلية المصرية العامة وكان موقعها فى شارع كنسينجتون بالاس جاردنز واختار لنا فندقًا مناسبًا فى منطقة كوينزواى القريبة من مبنى القنصلية وكان اسم الفندق (نيرا) إن لم تخنى الذاكرة وقد كان مالكه رجل أعمال هندى واكتشفنا بعد يومين أن هناك شخصية مصرية مهمة تقيم معنا فى الفندق، ودفعنى الفضول إلى التعرف عليه فإذا هو واحد من أبرز أبطال 23 يوليو القائم مقام يوسف صديق، وجمعتنا به مائدة الإفطار فى الفندق واسترحت إلى هدوئه وكبريائه واتساع رؤيته وشمول نظرته، وتكررت اللقاءات بيننا يوميًا فى الفندق والقنصلية التى كانت تشرف على علاج المصريين بالخارج، وحكى لى ذلك الرجل المتميز الكثير عن تاريخه الشخصى والعسكرى، وقال لى إنه فى ليلة 23 يوليو بعد أن أدى دوره شعر بآلامٍ فى الصدر ثم تقيأ دمًا، مما دفعه إلى اللجوء لأقرب مستشفى عسكرى وجرى حقنه يومها حقنة واحدة توقف بعدها النزيف ولم يعد إليه أبدًا، وسألته هل حكيت هذه الواقعة لطبيبك الإنجليزى فهز رأسه بالإيجاب وقال إنه أعطاه تفسيرًا علميًا لماحدث، ثم بدأنا فتح خزينة ذكرياته عن العشرين عامًا السابقة للقائنا، وتحدث الرجل عن الرئيس عبد الناصر بلهجة لا تخلو من الانتقاد والإحساس بالظلم الذى وقع عليه فى عصر الرئيس الراحل، وأضاف أن السادات قد أعاد له الاعتبار فهو الذى أمر بأن يستكمل علاجه فى بريطانيا بل حاول أن يعيد إليه بعض حقوقه بعد رحيل الرئيس عبدالناصر عن عالمنا، ولفت نظرى فى حديثه درجة الموضوعية العالية فقد أعطى عبد الناصر ما يستحقه من تقدير وطنى على مدى تاريخه، ولم تخل لهجته عنه من الاعتدال دون تحامل متعمد أو انتقادٍ غير مبرر، ولقد استمتعت بصحبته شهرًا كاملاً فى المسكن والقنصلية التى يتردد عليها للعلاج خصوصًا أنه قد أوكل إليَّ وقتها الإشراف على علاج المصريين فى لندن كجزء من واجباتى كنائب للقنصل، وأتيح لى أن أعرف رأيه فى زملائه من الثوار وما يعلمه من خلفياتهم العسكرية والفكرية وأشهد أنه كان متوازنًا وعادلاً رغم المرارة التى كان يشعر بها وأسلوب التعامل معه فى العشرين عامًا السابقة، ولقد تابعت مسيرة ذلك البطل المصرى الشريف وعلمت أن زميل دراستى الأستاذ عبدالقادر شهيب الكاتب الصحفى ورئيس مجلس إدارة دار الهلال بعد ذلك قد اقترن بابنة ذلك المناضل إلى أن رحلت عن عالمنا منذ سنوات، والمعروف أن الأسرة كلها كانت تعيش تحت مظلة النضال السياسى والعمل الوطنى، وأنا أكتب اليوم هذه السطور لأننى أريد أن يتذكر الجميع أن أبطال التاريخ المصرى ليسوا هم فقط أولئك الذين تردد ذكرهم كثيرًا أو تجملت الميادين بتماثيلهم أحيانًا، بل إن فى ثنايا التاريخ والحوارى الضيقة له أسماء لا تقل قيمة ومكانة عن المشهورين والمعروفين فى مسيرة الوطن، وأتذكر أننى قد التقيت أيضًا فى القسم الطبى بالقنصلية بلندن السيدة ناهد رشاد التى جاءت للندن للعلاج على نفقة الدولة تكريمًا من الرئيس السادات لدورها الوطنى ومكانتها فى العصر الملكى باعتبارها زوجة الطبيب البحرى يوسف رشاد صديق أنور السادات، حتى إنه يقال إنها هى التى وضعت منشورات الضباط الأحرار على مكتب الملك فاروق قبل الثورة إنذارًا وترهيبًا حتى يطهر الحاشية من حوله ويمضى على الطريق الصحيح، ومازلت أقرر أن عملى فى مطلع حياتى الدبلوماسية بالعاصمة البريطانية قد أعطانى ذخيرة ضخمة من المعارف والمعلومات ما كان يمكن أن تتاح لى لولا أننى كنت هناك فى عاصمة الضباب فى أثناء حكم الرئيس الراحل أنور السادات بعد أن انتقلت إليه السلطة بوفاة عبدالناصر صاحب الكاريزما المتفردة فى تاريخ مصر المعاصر!
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/850029.aspx