لقد قالوا: «إن السلطة المطلقة مفسدة للمرء... أي مفسدة». وفي ذلك مواجهة واضحة للاستبداد وطبائعه والانفراد بالحكم ونتائجه، ولم يكن عبدالرحمن الكواكبي مخطئاً عندما كتب في هذا الشأن كتابه الشهير «طبائع الاستبداد» في نهايات القرن التاسع عشر، والذي يفكر في أحوال الأمة العربية والدول الوطنية فيها يكتشف حالياً أن جزءاً كبيراً من المحنة يكمُن في سوء استخدام السلطة والانحراف بالحكم في اتجاهات لا تصب بالضرورة في مصلحة شعوبها، إذ إن نقص المشاركة السياسية وضعف المسيرة الديموقراطية يؤديان إلى ما يمكن اعتباره نوعاً من التخلف السياسي ونمطاً من أنماط فساد السلطة وانحراف الحكم، ولا أستطيع التعميم في ما أقول، إذ إن هناك محاولات جادة اتجه بعضها لتطبيق الشورى الإسلامية بينما انصرف بعضها الآخر إلى استيراد الديموقراطية الغربية وبين النموذجين تأرجحت نظم ونشطت حكومات، ولكن الأمر الذي لا خلاف حوله هو أن الشعور بمسؤوليات الحكم لا يرقى الآن إلى مستوى هموم الأمة ومعاناتها. ولقد لاحظت أخيراً انصراف كثير من الكتابات الأجنبية إلى انتقاد العرب إلى حد التوبيخ والإشارة في قسوة إلى تفرقهم وتشتُّت جهودهم وتراجع إسهامهم في حضارة العصر، إذ إن ما قدموه للثقافة العالمية والبحث العلمي والفكر الإنساني محدود للغاية، ويكفي أن نعلم أن عدد العناوين السنوية للكتب الصادرة في العالم العربي كله يقل عن نصف ما يصدر في دولة مثل إسبانيا، إننا نعاني محنة العزلة عن تيارات العصر وأفكاره كما نبدو بعيدين مما يمكن الاعتماد عليه أو التمسك به، فلا نحن قادرون على إحياء القيم العربية الأصيلة وتطويعها لروح العصر وخدمة أجياله الجديدة ولا نحن قادرون في الوقت ذاته على النقل الذكي من تجارب الآخرين، حتى اعتبرنا الكثيرون مجرد ظاهرة صوتية وأمة مفككة بلا ضابط ولا رابط، ولعلي شخصياً من غير المغرمين بجلد الذات في كل مناسبة ولكني أيضاً من دعاة النقد الذاتي الذي يؤدي إلى الإصلاح الحقيقي وليس إلى الانفجارات الثورية العنيفة التي تدفع ثمنها الشعوب ولا تحقق منها عائداً إيجابياً على الإطلاق؛ ولعل نموذج ثورات الربيع العربي ونتائجه السلبية هو خير شاهد على ذلك، ويهمني هنا أن أطرح النقاط التالية:
أولاً: إن الذي يتأمل الواقع العربي الراهن سوف يكتشف أن همومنا أكبر من مسؤوليات الحكم الحالي، وأن الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الترشيد وتطبيق قواعد الحوكمة العصرية على النظم القائمة، إذ إن التمثيل النيابي العربي في مجمله ضعيف ولا يعبر بدقة عن إرادة الشعوب، فضلاً عن أنه يبدو موجهاً في كثير من النظم القائمة، كما أن الدول العربية القليلة التي اعتمدت الديموقراطية أسلوباً في الحكم قد دخلت حياتها البرلمانية في دوامات متواصلة نتيجة غياب القواعد الملزمة أو وجود السوابق المؤثرة، فنحن أمام أوضاع مزدوجة إلى حد كبير ولا تعبر تعبيراً دقيقاً عن الواقع الذي نسعى لتحقيقه في ظل ظروف بالغة الحساسية شديدة التعقيد، لقد كتب الله على هذه الأمة أن تكون مطمعاً لغيرها وهدفاً لجيرانها ومركزاً لضغوط خصومها. كما أن تاريخها وما حفُل به من تناقضات قد ترك بصماته عليها بالطائفية البغيضة والانقسامات المتعددة وغياب القدرة على التنسيق والتوحد، فأصبح كل قطر عربي يضرب في اتجاه قد يتناقض مع قطر عربي آخر والأمثلة كثيرة والنماذج متعددة، لذلك فإن التاريخ العربي في مجمله هو بحق «تاريخ الفرص الضائعة».
ثانياً: لن نمل أبداً من تكرار حقيقة واضحة وهي أن ضعف منظومة التعليم في معظم الأقطار العربية قد أدى بدوره إلى تراجع العائد النهائي منه، فالتعليم هو بوابة المستقبل وطريق الأمم والشعوب نحو مشروع نهضوي لا يتحقق دائماً إلا بالتعليم، ولعلنا نتذكر تجربة محمد علي في مصر منذ أكثر من قرنين من الزمان لكي نتأكد من أن التعليم هو المدخل الوحيد للنهوض والارتقاء، وأن ما عدا ذلك يؤدي إلى التراجع والانزواء بل والخروج من دائرة العصر برمته، خصوصاً أن التقدم التكنولوجي الكاسح يسبق الجميع ولم تشهد عصور التاريخ تلك القفزات الهائلة في عالم التكنولوجيا مثلما نشهدها الآن، ولو أخذنا نموذج تكنولوجيا المعلومات على سبيل المثل فسوف نجد أننا أمام ثورة حقيقية تربط الكون بشبكة سريعة للتواصل لم تكن متوقعة منذ عقود عدة، كذلك فإن النهضة التعليمية لها توابعها المتلازمة وفي مقدمها البحث العلمي بنتائجه الباهرة وانعكاس ذلك على الأوضاع الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، فضلاً عن ارتباط التعليم أيضاً بالقاعدة الثقافية لكل دولة، فالتعليم هو حجر الأساس لنهضة ثقافية تشد البلاد إلى الأمام، وذلك كله فضلاً عن ارتباط التعليم بعنصر التشغيل وما يؤدي إليه من مكافحة البطالة وتحقيق التوظيف الأمثل للموارد البشرية التي تملكها الدولة، فالتعليم هو مصدر الكفاءات ومنبع الخبرات خصوصاً إذا ارتبط متلازماً بالأسلوب العصري في التدريب المهني والحرفي وهو أمر تحتاجه الدول النامية ويعتمد عليه بناء أعمدتها الراسخة.
ثالثاً: إن التجارة البينية بين الدول العربية تمثل رقماً هزلياً ويكفي أن ندرك أن بعض الدول العربية تستورد منتجات دول عربية أخرى من خلال طرف ثالث خارج إطار الوطن العربي وهو ما يعني ضعف التركيب البنيوي ونقص الهيكل الاقتصادي، بحيث لم نحقق حتى الآن نوعاً من التكامل ولا حتى درجة من درجات التنسيق الاقتصادي وفقاً لنظرية «الميزة النسبية» لكل قطر، بل إن الذي يحدث يختلف عن ذلك تماماً، إذ لا يوجد حد أدنى من التكامل الزراعي أو التنسيق الصناعي أو حتى التوزيع السياحي خصوصاً في وطن عربي تزخر أرضه بالآثار والمشاهد التي تستدعي الرؤية وتستحق التسجيل. إننا أمام حالة عبثية تجتاح أقطارنا على حساب ما كان يمكن أن يؤديه التكامل والتنسيق وتوزيع الأدوار، ولكننا استعضنا عن ذلك بمشكلات الحدود المشتركة وحساسيات الجيرة الجغرافية ولم ندرك أن التاريخ الواحد كان يمكن أن يمنح درجة من الانصهار تكون كفيلة بحل قدر كبير من مشكلاتها.
رابعاً: حكمت الجغرافيا وقرر التاريخ على الأمة العربية أن تقع بين جيران لهم أطماعهم فيها وعقدهم التاريخية نحوها، فإيران على البوابة الشرقية تحمل في أعماقها قدراً كبيراً من المنافسة القومية والصراع الشعوبي الكامن نتيجة الجوار في المكان والتداخل في الزمان، وعلى الجبهة الشمالية الغربية نجد الدولة التركية التي تحاول أن تستعيد تاريخاً مضى وأن تستدعي الإرث العثماني على المنطقة من جديد. حتى أن رجب طيب أردوغان (الخليفة المنتظر) يتحرك في كل اتجاه يضرب على غير هدى لعله يسترد المجد الضائع وينجح في تحقيق الهيمنة التركية على المنطقة العربية، بينما تبقى إسرائيل خصماً تاريخياً له استراتيجية طويلة المدى ومخططات بعيدة نجحت في تحقيق جزء كبير منها لا بسبب تفوقها فقط ولكن أيضاً بسبب ضعف العرب، وهي حالياً ترقب ما يجرى في سعادة، لأن الآخرين يتكفلون بتحقيق ما تريد، ولذلك فإنني أظن أن الأخطار القادمة من دول الجوار غير العربي هي تحدٍ كبير وخطر يهدد هذه الأمة ويمتص جزءاً كبيراً من طاقتها ويفرض عليها أن تصرف جهودها لمواجهته والتحقق من إمكان الوصول إلى حالة استقرار معه، ولكن الغريب في الأمر هو أن هناك دولاً عربية رأت أن تغرد خارج السرب وأن تقيم جسوراً للتواصل الخاص مع بعض هذه الدول على حساب أمن واستقرار دول أخرى وهو أمر يحتاج إلى المراجعة الموضوعية والتفكير القومي الرشيد.
خامساً: ليس من شك في أن الواقع العربي المعاصر يشهد حالة من الصدام بين الماضي والمستقبل، بين الجمود والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة إن جاز التعبير، وهي كلها تدل على مخاض كبير لصراع واسع قد يؤدي إلى نوع من صدام الأجيال وتغيير ملامح المستقبل برمته لأننا نواجه عصراً جديداً له تحدياته ومعه رموزه ولا يمكن مواجهته بترديد الأشعار والأذكار أو صك الشعارات التي تتباكى على الماضي وتشير إليه. إننا أمام مخاض صعب لا بد أن نواجهه في شجاعة حتى نتمكن من ولوج العصر والدخول في أتون التطور الطبيعي للشعوب والأمم، في ظل سرعات متفاوتة وتحالفات ناقصة ومجتمع دولي معقد.
سادساً: لقد تعودنا نحن العرب على ازدواج الخطاب السياسي، بحيث نخاطب الداخل بلغة تختلف عن الخارج وألا نقيم حدوداً فاصلة بين الموضوعية والشخصنة، فأصبح جزء كبير من حديثنا منصرفاً إلى الاستهلاك المحلي بينما جزء آخر يمضي بلغة مرتعشة تجاه الغرب، إننا أمة طيعة في مواجهة أطماع الغير ولعل ذلك واحد من رواسب التاريخ الطويل في علاقتنا مع الغرب الاستعماري على امتداد القرون التي مضت، كما أن اختلاط الدين بالسياسة قد زاد الأمور تعقيداً وجعلنا أسرى للصراع المفتعل بين دعاة التيار القومي في جانب وأنصار الإسلام السياسي في جانب آخر.
سابعاً: إن العالم كله يتحدث في هذه المرحلة عن دولة المؤسسات، ولا يمكن أن نترك الأمر يفلت من أيدينا، إذ إن روح العصر تستدعي الاستجابة لمفهوم دولة المؤسسات التي تقوم على إيمان عميق بأن المؤسسة أقوى من الفرد وأهم وأدوم، لذلك فإننا نرفض ذوبان مؤسسات الدول العربية المختلفة على كل مستوياتها في شخوص أفراد يقومون بخطفها حتى تذوب في كيانهم على حساب المستقبل وأجياله القادمة.
إنني أريد أن أقول إن كل ما نشهده حالياً- متصلاً بهمومنا المزمنة والطارئة- هو أمر يتعلق في النهاية بمسؤولية الحكم الرشيد واتجاهنا نحوه من دون تشنجات أو صراعات أو تبادل للاتهامات!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 8 يناير 2018
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/847780/شباب/هموم-الأمة-ومسؤوليات-الحكم