أفرزت الأحداث الأخيرة فى شرق أوروبا عددًا كبيرًا من الحقائق والتغيرات وطرحت عددًا آخر من الاستنتاجات التى تحتاج إلى دراسة متأنية وفهم عميق، فكل الحروب التى جرت عبر التاريخ جرى اعتبارها حروبًا موضعية إذا كانت المواجهة بين الإنسان الأبيض ونظيره الأسود أو الأسمر أو الأصفر، أما إذا كانت أطراف الحرب منتمية إلى الجنس الأبيض فى مجملها فيبدو أن الأمر يختلف، وتبدو قراءة الموقف ذات سياق آخر تهتز له أركان الدنيا الأربعة ويتقاذف زعماء العالم التصريحات النارية وتنعقد الاجتماعات الملتهبة، ويبدو العالم كله وكأنه فى عجلةٍ من أمره، ويدور الحديث حول نذر الحرب العالمية واحتمالات الصدام الكونى الشامل، فالسيد الأبيض - حتى وهو لاجئ - يحمل على كتفيه أوسمة العبور ونياشين الاحترام، وذلك بالطبع على نحوٍ نسبى يختلف تمامًا عما يجرى للاجئين من فلسطين أو سوريا أو من الدول الصغيرة فى أنحاء القارة الإفريقية، فضلا بالطبع عن اللاجئين المسلمين من ميانمار أو الصين أو الفلبين أو غيرها من أطراف العالم الفقير بعيدًا عن سيادة الرجل الأبيض وسطوته! ولقد لاحظنا التمييز الواضح بين اللاجئين من عالمنا الفقير واللاجئين من العالم الأول أو الثانى إذا جاز التعبير تمييزًا لهم عن اللاجئين من دول العالم الثالث المقهورة على أرضها المنبوذة من غيرها والتى يتم تجاهلها فى كل الأزمات وجميع الصراعات، وكأن هناك دماء بشرية أغلى من غيرها، وأتذكر ما كان يقوله لى أستاذى د.بطرس بطرس غالى عن العنصرية فى الموت مع ما كان يجرى حينذاك من أحداث البوسنة والهرسك متزامنًا مع ما كان يجرى فى رواندا وبوروندى فى القارة السوداء فى مفارقة مؤلمة توضح أن العنصرية قد زحفت على كل شيء فى زماننا المحفوف بالمخاطر، المليء بالصراعات الحافل بخطاب الكراهية الذى تطل منه العنصرية بوجهها الكئيب، حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية التى ترفع رايات الحرية وتزعم الحديث عن المساواة المطلقة فى كل حين، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولا: إن التمييز العرقى بسبب الجنس أو اللون، والتفرقة الثقافية بسبب العرق أو الدين لا يمكن أن تنهض أبدًا كسبب للتفرقة بين البشر، فكلنا جئنا من معدن واحد وأعطيت محنة الحياة للجميع بشكلٍ متساوٍ فى لحظة الميلاد، كما أن النهاية أيضًا يتساوى فيها الجميع فى لحظة الرحيل، كذلك فإنه يجب عدم التفكير بشكلٍ عنصرى أو طبقى، خصوصًا أن معدلات الذكاء متقاربة بين كل الأجناس والأعراق ولا ميزة لقومٍ على غيرهم إلا بالتفكير السليم والرؤية الصحيحة والنظرة الموضوعية.
ثانيًا: إن التعايش المشترك هو أفضل صفات الإنسان المعاصر الذى يجب أن يتواءم مع كل المتغيرات والأحداث فى عصر يبدو فيه كل شىءٍ متغيرًا بدءًا بالمناخ مرورًا بالسياسة وصولا إلى الثقافة، فلم تعد الحواجز عالية ولا المسافات كبيرة بين عقلٍ وآخر، ولقد أثبتت التجارب أن مدة التعليم وفترة التدريب تؤدى إلى نفس النتائج إذا تساوت المؤشرات الأخرى رغم الاختلافات العرقية أو الثقافية، فالإنسان هو الإنسان ابن بيئته ونتاج المناخ الفكرى والثقافى الذى يوجد فيه، لذلك فإن العنصرية البغيضة هى نوع من الممارسة القهرية التى نجح الرجل الأبيض فى حيازتها للسيطرة على البشر فى عهود العبودية القادمة من إفريقيا متجهة إلى العالم الجديد تجسيدًا لروح العنصرية والفكر المحدود والعقل المتجمد الذى لا أرى مبررًا لوجوده فى هذا العصر.
ثالثًا:إذا علمنا أن ثمانين بالمائة من اللاجئين فى العالم كانوا من المسلمين إلى عهدٍ قريب، وإذا أدركنا أننا نحن العرب قد دفعنا ضريبة غالية أمام عنصرية الغرب لعقود طويلة، ثم دفعنا ذات الضريبة فى مواجهة عنصرية الإرهاب المنبثق من أراضينا أحيانًا أخرى، فسنعلم أننا نعد بحق دافعى ضرائب العنصرية الحمقاء عدة مرات، ولم يعد بمقدورنا أن نقبل بما كان يجرى على أرضنا من سيطرة واجتياح وظلمٍ وافتراء، فقد حان الوقت لكى تستيقظ الشعوب وتقاوم العنصرية بكل ما أوتيت من قوة وما لديها من صلابة.
رابعًا: لا يخفى على أحد أن القاعدة القانونية الدولية ناقصة، لأنها تفتقر إلى عنصر الجزاء الذى تعرفه كتب القانون بأنه (زاجر دنيوى منظم)، وإذ افتقد القانون الدولى قوته الإلزامية فإن الاستخفاف به والتندر عليه أصبح أمرًا شائعًا ولم تعد هناك قوة ملزمة تحمى قراراته أو تدافع عن مبادئه، فالشرعية الدولية يجرى انتهاكها صباح مساء، كما أن الأمر يمتد الآن حتى بين أبناء الجلدة الواحدة إلى حرب دموية تنذر بأوخم العواقب وتعيد إلى الذاكرة مخاطر الحروب العالمية.
خامسًا: إننا نتطلع إلى المستقبل بنظرة تنبذ التشاؤم وتطل على التفاؤل بكل احتمالاته، إننا نؤمن بأن حياتنا على هذا الكوكب يجب أن تتخلص أولا بأول من سلبيات التحضر إذا جاز التعبير وخطايا العصر وأعباء التكنولوجيا وما حملته معها من آثارٍ سلبية رغم أنها فى المقابل جعلت الحياة أكثر يسرًا وسهولة وكأن لسان حالنا يقول إنها شر لابد منه!
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/850824.aspx