إنها محاولة للحديث عن الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إلا أن الكتابة عن الأحياء- أطال الله في أعمارهم- تشوبها مشاعر شخصية تتصل بعامل المعاصرة والاتهام بالنفاق أحيانًا والبعد عن الموضوعية أحيانًا أخرى، وأنا لا أنكر اعتزازى بالعلاقة التي تربطنى بهذا الإمام المعتز بكرامته وكبرياء منصبه، فهو أستاذ للفلسفة الإسلامية ضرب بسهمٍ كبيرٍ في اتجاه العلاقات الخارجية للأزهر الشريف خلال السنوات الأخيرة.
ولأن الكتابة عن الأحياء- كما قلت- أمر محفوف بالمخاطر وشبهة المجاملة أو التحامل، فإننى أبتعد عن الكتابة حول الإمام الأكبر، مكتفيًا بتسجيل احترامى لفضيلته واعتزازى بمعرفته في موقعه الجامعى الأكاديمى أو موقعه المرتبط بمنصبه الرفيع والوثائق التي صدرت عن الأزهر في عهده، وأركز في السطور القادمة على إمام المجددين وأيقونة الأزهر الشريف الإمام محمد عبده، لأدواره الدينية والسياسية والفكرية، وأنا أعلم أن صديق العمر أستاذ أساتذة العلوم السياسية، على الدين هلال، يعلم عن الإمام أضعاف ما نعلم بحكم موضوع دراسته العليا، إلا أننى أستأذنه في أن أقول إن الإمام الذي لم يصل إلى مشيخة الأزهر ورحل عن عالمنا عام 1905 بعد أن شغل منصب الإفتاء لسنوات.
قد شارك في الحياة السياسية داخل مصر وخارجها، سواء في مصر أو أثناء المرحلة اللبنانية في المنفى أو الفترة الفرنسية المتوهجة، فإن بصماته تبقى واضحة في دعم الثورة العرابية والانتصار للحركة الوطنية بكل أبعادها وآفاقها، فضلًا عن وقوفه في وجه الظلم والاستبداد، مع فهمه العميق والمتفرد لمفهوم الأمة الإسلامية الذي ارتبط بعلاقته الوثيقة بالسيد جمال الدين الأفغانى، عندما أصدرا معًا جريدة (العروة الوثقى)، تعبيرًا عن مفهوم التضامن الإسلامى والاهتمام بالحوار مع الآخر وتقدير الغير.
فالإمام المجدد محمد عبده، ابن قرية محلة نصر مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، هو نفسه الإمام الذي وقف في وجه الطغيان وآمن بالوطنية المصرية وأدرك المفهوم الإنسانى الواسع للفكر الإسلامى الصحيح، والذى قال عبارته الشهيرة: (عندما جئت إلى باريس عرفت قومًا من غير المسلمين ولكنهم يتخلقون في الكثير من أوجه حياتهم بأخلاق الإسلام.
بينما تركت في بلادى مسلمين بغير إسلام حقيقى)، تلك العبارة الحاكمة التي تعكس رؤيته الشاملة ونظرته البعيدة لمفهوم وحدة الجنس البشرى، وهى وحدة عابرة للقارات والأمم والمجتمعات والشعوب، وحين نتذكر الإمام محمد عبده فإننا نتذكر معه عددًا من معاصريه من علماء المسلمين العرب، ومنهم الثائر على طبائع الاستبداد عبدالرحمن الكواكبى، ابن حلب الشهباء، وشكيب أرسلان، ابن لبنان، مع اختلاف مع محمد رشيد رضا الذي تعتبر كتاباته إرهاصاتٍ مبكرة لفكر الشيخ حسن البنا وجماعته.
فالأزهر الشريف بحق كان دائمًا هو مصنع المفكرين والأدباء والعلماء والفنانين، سواء من اتفقوا معه ولم ينتقدوا أساليب الدراسة فيه، أو من اختلفوا معه وخرجوا عليه مثل الرجل الذي يمثل معجزة التفكير والتعبير عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، إننى أتذكر في شهر رمضان أيضًا الإمام المراغى في فترتى مشيخته للأزهر، إذ يرجع الفضل إليه في إعادة تنظيمه وتجديد علومه، كما أتذكر أيضًا الإمام الصوفى عبدالحليم محمود، الذي جعل من الاعتكاف تعبيرًا عن مواقفه المتعددة سياسيًا في ظروف مختلفة، واكتسب بصوفيته مكانة خاصة بين أئمة النصف الثانى من القرن العشرين.
ولا يمكن أن أنسى ابن البحيرة أيضًا الإمام المجتهد والعالم المدقق محمود شلتوت، صاحب الفتوى الشهيرة بسلامة التعبدلأصحاب المذاهب الإسلامية الصحيحة، فضرب بذلك مثالًا رائعًا في محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية دون تعقيد أو تزيد، فالأزهر الشريف شريك تاريخى لثورات الشعب المصرى منذ الحملة الفرنسية والاحتلال البريطانى، كما خرجت من صفوفه قيادات فكرية للحركة العرابية وثورة 1919 وظل دائمًا مدرسة للدعاة ومصنعًا للمجتهدين، لا في مجالات الدين واللغة فقط ولكن في ساحات الأدب والفن أيضًا.
إنها خواطر نودع بها الشهر الكريم، ونعتز بالأزهر الشريف وشيوخه الأجلاء، وندعو الله أن يكون دائمًا قلعة للوسطية ومركزًا للاعتدال ومنارًا للإسلام الحنيف.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2582354