لا أظن أننا نجافي الحقيقة إذا قررنا أن ما جرى في العام الأخير في السعودية يوازي في أهميته ما جرى في منطقة الخليج عبر عقود عدة؛ لأننا أمام مواجهة واضحة بين منظور الحداثة في جانب أو مواصلة الأوضاع القائمة في جانب آخر. ولعل ما جرى خلال هذا العام لم يكن متوقعاً لدى كثير من الدوائر الغربية أو العربية أو الإسلامية خصوصاً أن الأمر يبدأ من بلد «الحرمين الشريفين» مهبط الوحي ومنزل الرسالة. إن القرارات الجريئة والحاسمة التي طرحتها القيادة السعودية في الشهور الأخيرة تعطي انطباعاً بحيوية النظام السياسي وقدرته على الخروج من عباءة الماضي إلى التحدث بلغة العصر ومواكبة تطوراته التي تمثل قفزات نوعية على طريق المستقبل. ولسنا هنا بصدد تحليل مضمون لتلك الإجراءات ولكننا ننظر إليها من بُعد منهجي يرى أن تلك المواجهة الواضحة تضع المملكة على طريق التحول الثقافي والاجتماعي فضلاً عن التغيير الاقتصادي والدخول في مرحلة تعدد مصادر الدخل الوطني؛ وهذا يقودنا إلى ضرورة ملاحظة النقاط الآتية:
أولاً: لقد تردد في أدبيات (علم الحكومات المقارنة) الكثير عن الحكم الرشيد والحوكمة ولكن قليلة هي تلك الدول التي اتخذت طريقاً للإصلاح ومضت فيه إلى نهايته، فالكل يردد الشعارات ويتغنى بالمبادئ ويتحدث عن محاربة الفساد وعن الكف عن الاستبداد ولكن غالباً لا يحدث ذلك. ونحن إذ نرى السعودية تمضي في اتجاه جديد من أجل خلق دولة تمضي على طريق العصر وبروح الحداثة، فإننا نكون بالتأكيد ماضين على الدرب الصحيح مهما كانت العقبات والمشكلات والأزمات والتحديات. إلا أن الأمر الذي لا خلاف عليه هو التأكيد على المسار الذي يتواكب مع ما يجري في عالم اليوم وما يدور في دوله المختلفة.
ثانياً: لقد عرفت العائلة الحاكمة في المملكة العربية السعودية منذ الملك المؤسس عبد العزيز درجة عالية من الاستقرار والتماسك ونتوقع لها أن تمضي بالأسلوب ذاته؛ خصوصاً أن الإصلاح يبدأ من القمة إلى القاعدة ولا يميز بين أفراد في العائلة الحاكمة وبين غيرهم من أبناء الشعب السعودي الذي التف حول تلك العائلة تاريخياً في ثقة وهيبة برغم المواجهات كافة التي عاشتها المملكة منذ قيامها حتى الآن. ولذلك، فإننا نحسب أن عملية الإصلاح هي رسالة إيجابية من العائلة إلى شعبها وهي أيضاً تعزيز للشخصية الحديثة للمملكة أمام العالمين العربي والإسلامي بل وأمام العالم كله شريطة أن تمضي مسيرة الإصلاح بأقل قدر من التضحيات وبعيداً مِن الصراعات والخلافات، إذ إن المصالح العليا للأوطان تعلو على غيرها من الاعتبارات إذا كان الحاكم موضوعياً ومحايداً لا ينحاز إلا إلى ضميره الوطني ومصالح شعبه، فالفيصل في الأمر كله هو الاحتكام إلى الشعب؛ حامل الرسالة والمقيم على أرض الدعوة والحارس لمقدسات المسلمين.
ثالثاً: لا يخالجني شك في أن التماسك المعهود للبيت السعودي سيظل قوياً متيناً؛ لأنه يقوم على أسس وضعها الملك الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود؛ بحيث استقرت مجموعة متميزة من الأفكار والقيم والتقاليد التي تعيش بها ولها السعودية. ولسنا ندعي الحديث عن دولة الملائكة ولكننا بالتأكيد نحمل شعوراً خاصاً تجاه ذلك البلد الذي عرف فجر الإسلام ومشي على أرضه رسوله الكريم حتى وقر في ضمير المسلمين شرقاً وغرباً أن استقرار المملكة هو استقرار لهم وأن الإصلاح يمكن أن يكون نموذجاً يحتذى ونمطاً جديداً في حياة ذلك الشعب الذي خطا خطوات على طريق العلم والتقدم في سنواته الماضية وأصبح عليه أن يمضي على طريق الإصلاح والتحديث حتى لا يظل رهينة سلعة واحدة في ظل مفهوم اقتصاد الريع؛ إذ إن الصناعة والسياحة يمكن أن تمثلا له إطاراً للمستقبل وأملاً في الغد. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالإصلاح ظاهرة مُعدية تنتقل من بلد إلى بلد وتحمل معها رياح التطور الحقيقي والقدرة على صياغة المستقبل بكل أبعاده؛ واضعين في الاعتبار أن النمط السعودي في الحكم كان دائماً فريداً في نوعيته متميزاً بطبيعته؛ لأن التركيبة في السعودية تطورت وفقاً لأحكام الشريعة وفي ظل المفاهيم الإسلامية ببساطتها وعمق دلالتها.
رابعاً: لعل أهمية ما يجري في السعودية هو أنه يمضي بجرأة وثقة في بلد تنقل عنه الدول الإسلامية وتحتذي به الدول الخليجية وترتبط به دول أخرى ارتباطاً وثيقاً؛ لعل من أهمها مصر التي يشد مشاعر شعبها هوى التدين والإسراف في السعي نحو الحج والعمرة حتى أن النسبة الغالبة من تأشيرات جوازات السفر للمصريين توضح أن السعودية تحظى بنصيب الأسد من بينها؛ بسبب تعلق المصري العادي بزيارة الحرمين والطواف بالـكعبة. لذلك تبادل الشعبان المصري والسعودي التأثير والتأثر واجتاحت البلدين ظاهرة الإسلام السياسي وتأرجحت بين الشعبين الجماعات السلفية. وما زلت أتذكر أن الأمير الراحل نايف بن عبد العزيز ولي العهد ووزير الداخلية السابق في المملكة قال ذات يوم: إن الذين يتهمون السعودية بأنها مصنع التطرف ويشيرون إلى بن لادن لا يدركون أن جماعة الإخوان المسلمين هي الأصل ولا يتذكرون أن أيمن الظواهري المصري هو العقل المفكر لتنظيم «القاعدة»، وهذه العبارة الصحيحة تعكس الفهم الدقيق لما عانى منه الشعبان في العقود الأخيرة.
خامساً: يختلف المحللون السياسيون في أنحاء العالم حول تقييم الخطوات الأخيرة في السعودية، ويميل معظمهم إلى تأكيد النظرة الإيجابية لما جرى على اعتبار أن ما حدث يمضي مع حركة التاريخ ويتهيأ للمستقبل، وقد يكون من نتائجه بروز الدور السعودي؛ معتمداً على توازن في الهيكل الاقتصادي للدولة والخلاص من سمة الدولة النفطية فقط، فالمملكة لديها بقاع سياحية ومشاريع صناعية حققت بها جزءاً كبيراً من مكانتها الحالية ولكنها تستطيع أن تمضي أكثر بما يحقق الأهداف التي تسعى إليها من خلال الخطوات الأخيرة في المملكة رغم اعترافنا بحساسية الموقف أحياناً وتداخل العوامل المؤثرة فيه أحياناً أخرى، ولكننا نطلب في النهاية أن يكون في مستقبل المملكة ما هو أفضل من حاضرها وماضيها، مثلما نرجو ذات الأمر لشعوب المنطقة حتى تتوقف الحروب ويختفي التطرف ويبتعد الإرهاب.
سادساً: إن هناك نغمة تتردد أحياناً مؤداها أن المملكة سعت إلى هذا الطريق بتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وإدارة ترامب تحديداً، وهو قول لا تعززه الشواهد ولا يستند إلى منطق خصوصاً أن الرئيس الأميركي رجل ليس له «كاتالوغ» وتصرفاته غير محسوبة ولا يفكر على المدى الطويل ولكنه يتصرف بحسابات موقتة ورؤية انفعالية قد يصعب التنسيق معها. نضيف إلى ذلك أن روح الإصلاح في المنطقة ترددت منذ سنوات من دون حاجة إلى مؤثر خارجي، لأن الآلاف ممن درسوا في الخارج قد عادوا إلى بلادهم وهم يحملون عدوى الإصلاح و»فيروس» التغيير إلى الأفضل، وتلك سنة الحياة وفلسفة الكون والفارق بين جيل وجيل، فدعنا نحسن الظن بما يتحقق بدلاً من النيل من كل إنجاز والعبث الدائم بالأفكار بل والحقائق أحياناً خصوصاً؛ وأن نظرية جلد الذات لا تصمد وحدها تعبيراً عن النقد الذاتي أو المكاشفة البناءة بل لا بد دائماً من أن تكون لدينا ثقة بالنفس واعتزاز بما نملك.
سابعاً: إننا ندرك خصوصية النظام السياسي السعودي وندرك أيضاً أن التجربة الواحدة قد لا تكون قابلة للتكرار من دولة إلى أخرى، ومع ذلك فإنني من المتفائلين بأن قدرة المملكة على تعزيز توجهاتها الجديدة سيكون لها مردودها الإيجابي على دول المنطقة وفي مقدمها مصر، ذلك أن نجاح الإصلاح السياسي والاجتماعي بل والثقافي أيضاً في بلد بحجم السعودية سيبرر ظهور برامج إصلاحية أخرى في دول مجاورة؛ لأن المملكة تبدو دولة عصيّة على التغيير محافظة بطبيعتها. فإذا جرى فيها ما لم يكن متوقعاً، فإن ذلك يعطي المبرر لدول مترددة في المضي على طريق الإصلاح الحقيقي، ونحن بالمناسبة لا نزعم أن الصورة وردية أو أن الحكام أصبحوا ملائكة ولكننا ندعي أن ما جرى يبدو لنا غير مسبوق في تاريخ الحياة السياسية في المنطقة عموماً. إننا نكتب في هذا الموضوع شديد الحساسية إيماناً منا بأن المسيرة واحدة وأن الغاية مشتركة وأن الهدف يتفق عليه الجميع.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 22 يناير 2018
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/847923/شباب/تحديث-السعودية-وتأثيره-في-العالم-الإسلامي