يتوهم الكثيرون أن المسافة بعيدة بين السياسة والفن، وهذا وَهْم النظرة الأولى، فالارتباط بينهما كبير.. إن السياسة هى فن الممكن، والفن هو لغة الحياة، ويربط بين الاثنين عوامل متعددة، فكثيرًا ما دعم الفن السياسة، وكثيرًا ما ساندت السياسة الفنون بأنواعها، وعندما تُوفر السياسة مناخ الإبداع فإن ذلك يعطى الفن درجة عالية من الحرية تسمح بازدهاره وعمق تأثيره.. وفى بلادنا نماذج كثيرة لذلك، فقد صنعت ثورة يوليو 1952 منظومة فنية تأثر بها الذوق المصرى العام حتى الآن، فقد تحول الفن المصرى الذى كان يغنى لفاروق الأول إلى جوقة كبيرة تتغنى بالثورة وتردد أناشيد الوطن وأهازيج الانتصارات فى حماسٍ زائد واندفاع شديد، وبرز اسم عبدالحليم حافظ رمزًا لتلك الثورة وتعبيرًا عن مناسباتها المختلفة، بل إن كبار الفنانين، خصوصًا أم كلثوم وعبدالوهاب، لم يتركا الفرصة واندفعا فى دعم الثورة وتوظيف اسميهما الكبيرين فى خدمة الإعلام الفنى، تحية للرئيس عبدالناصر الذى أصبح زعيمًا والقائد الذى تحول إلى ظاهرة، فنسجت تلك المظاهر بخيوطها المتشابكة أسطورة ذلك العصر بما فيه من حلم قومى وإحساس وطنى، حتى جاءت ضربة 1967 التى كانت إجهاضية لذلك الحلم القومى أو حتى الوهم الجماعى.
ولم نرَ عهدًا دعّم فيه الفن السياسة فى بلادنا مثلما حدث فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، بل إن الشاعر الراحل صالح جودت الذى كتب نشيد الفن الذى رعاه فاروق فى عهده هو نفسه صاحب المقال الشهير ضد الزعيم عبدالناصر وبعد مضى عامٍ واحد على رحيله تحت عنوان (على من نطلق الرصاص).
والأمر المؤكد هو أن الفن وراء السياسة دومًا، ولم يحدث العكس. وإذا بحثنا عن المنظور العالمى، فإن الفن بأنواعه المختلفة قد قدم قيادات كبرى لبلاده بدءًا من رونالد ريجان فى البيت الأبيض، وصولًا إلى زلينيسكى رئيس أوكرانيا الحالى، مرورًا بعشرات الأمثلة من فنانين اقتربوا من السياسة ولقوا تكريمًا منها، بدءًا بيوسف بك وهبى، وسليمان بك نجيب فى بلادنا، وصولًا إلى اللواء محمد عبدالوهاب قمة الطرب المصرى عندما كرمه بتلك الرتبة العسكرية الرئيس الراحل أنور السادات الذى كان فنانًا بطبيعته يقدر الفن ويهوى التمثيل ويتذوق الطرب الأصيل، فقد كان عاشقًا لصوت فريد الأطرش، وقريبًا من أدباء الشعب، مثل: زكريا الحجاوى ومحمود السعدنى.. وكما كان عبدالحليم حافظ هو مطرب ثورة يوليو، فالكثيرون يعتبرون صوت فيروز هو المرادف الذى تواكب مع مسار حزب البعث العربى الاشتراكى فى بلاد الشام.
بقيت قضية نريد أن نختتم بها هذه السطور، وأعنى بها العلاقة بين استمرار الفن والمناخ السياسى الذى يحيط به، والأجواء التى تصنع البيئة الحاضنة لذلك الفن مزدهرًا أو ذابلًا، فإذا كانت «الحاجة أم الاختراع»، فإن «الحرية هى أم الإبداع».. ويرد البعض محليًا على هذه المقولة باستدعاء إنجازات ثروت عكاشة لفروع الفن المصرى فى عهد عبدالناصر وازدهارها النسبى، بينما يدفع آخرون على المستوى الدولى بتاريخ الاتحاد السوفيتى وازدهار فنون الباليه والرقص الإيقاعى إلى جانب التميز الواضح فى المجالات الرياضية خصوصًا الألعاب الفردية، وذلك رغم غياب الديمقراطية وسطوة الحكم الفردى فى موسكو، حتى وإن اتخذ صورة قيادة جماعية.
ويحلل البعض ذلك بأن ما جرى فى مصر حول ستينيات القرن الماضى كان نتيجة قوة الدفع التى اكتسبتها الفنون المصرية من عصور سيد درويش ونجيب الريحانى وغيرهما من أساطين الفن، أما ما جرى فى الاتحاد السوفيتى السابق فسببه التدريب المركزى الشاق والالتزام الحاد بتحقيق النتائج المطلوبة.
.. خلاصة القول، إن الفن والسياسة وجهان لعملة بشرية واحدة تتصل بالإنسان، بدءًا من أفكاره، مرورًا بمشاعره، وصولًا إلى الدوافع الذاتية والانتماءات النفسية التى تصنع فى مجملها كاريزما كل مرحلة، وتنشر الضياء حولها كلما أتيح لها ذلك فى العالم كله.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2600260