يثور جدل في السنوات الأخيرة حول احتمال إزاحة الصحافة الإلكترونية لنظيرتها الورقية، ومن الطبيعي أن أنتمي شخصياً إلى جيل يتحمس للصحافة الورقية لأن عليها تربيت ومعها عشت ورافقتني في مسيرة حياتي منذ الطفولة، وقد شعرت في الأيام الأخيرة بالمعنى الحقيقي للصحافة الورقية، إذ فوجئ القراء في مصر من عشاق صحيفة «الحياة» الذين يدركون أنها صحيفة متفردة في موضوعاتها وإخراجها وأسلوبها بأن الصحيفة قد تُوقِفَ الطبع في مصر وتكتفي بوجودها الإلكتروني، وقد أسقط في يد الكثيرين، وأنا أولهم، وبدا الأمر وكأنه استفتاء على شعبية صحيفتنا وقياس مدى إعزاز القارئ المصري لها، ولقد دهشت لذلك لأنني كنت أظن أن هذه الصحيفة العربية الكبرى قد لا تجد رصيداً كافياً وسط الصحف المصرية الشائعة، ولكن ما جرى أثبت لي غير ما كنت أظن، ولقد قلقت شخصياً لأنني أحد كتاب «الحياة» منذ سنوات طويلة، إذ إن احتجاب نسختها الورقية من أكشاك بيع الصحف في القاهرة سوف يكون له مردود سلبي على ما أكتب، فاتصلت بمكتب «الحياة» في القاهرة وتأكدت أن الخبر صحيح، ولأنني أعلم بساطة صاحب السمو الملكي ناشر «الحياة» وتواضعه فقد أجريت اتصالاً هاتفياً بسموه حيث عبّرت له عن قلقي مع إيماني بأن هناك مساراً طبيعياً لتطور الصحف المعاصرة لا يمكن الوقوف أمامه، وقد كان الأمير راقياً وودوداً كعادته وطمأنني وقال لي: إن هناك فترة انتقال قد تستمر لشهور عدة تصل فيها أعداد «الحياة» بالاشتراكات إلى الأشقاء المصريين حتى ولو احتجبت طبعة القاهرة الورقية، فضلاً عن أن الإتاحة الإلكترونية للصحيفة سوف تكون بديلاً قوياً لكل من يسعى إليها، وبالفعل عادت النسخة الورقية إلى أسواق القاهرة بعد يومين من الاحتجاب، وقد أثار ما جرى في ذهني تساؤلات عدة حول مستقبل الصحافة الورقية بل والكتابة الورقية عموماً في ظل ما يجري في عالمنا المعاصر ولعلي أوجزها في النقاط التالية:
أولاً: إن محاور التطور ومفاصل التحول عبر التاريخ الإنساني كله لا تتحقق بسهولة ولا تمضي بسرعة، لأن الإنسان دائماً عدو ما يجهله ويقف غالباً في تردد أمام المقبل الجديد الذي تحيط به الشكوك، خصوصاً أن الحنين يشد الجميع إلى الماضي وقد لا يدفعهم إلى المستقبل، لذلك كان طبيعياً أن يشعر أبناء جيلي بنوع من القلق تجاه الكتابة الإلكترونية التي قد يستخدمونها، ولكنهم لا يستمتعون بها استمتاعهم بصحف الطفولة أو كتب الشباب أو القراءة في المكتبات العامة، فقد كانت تلك كلها خصائص الإنسان الذي يعيش مع غيره ويتفاعل مع من حوله، لا ذلك الذي ينكفئ وحده على شاشة صغيرة يتعامل معها ويصادقها ويبتعد بها عن كل المظاهر الثقافية العادية أو التصرفات الاجتماعية المعتادة!
ثانياً: لا أظن أن الكتابة الإلكترونية سوف تغني عن الكتابة الورقية، بل سيمضيان معاً لفترات طويلة يجري فيها الانتقال السلس بينهما، إذ إنه لا توجد خطوط قاطعة أو حدود فاصلة بين الاثنين، فلقد تعودنا عبر الرحلة الكبرى للتطور الإنساني أن يبقى القديم ملازماً للجديد ولو لفترة قد تطول، بل وقد يزدهر معه ولا يسقط بانتهائه، لذلك فإن وجود الصحافتين الورقية والإلكترونية في شكل متوازٍ هو أمر وارد بل هو أكثر الاحتمالات صدقية، إذ لا نتصور أن يتم التحول بالكامل إلى الصحافة الإلكترونية أو يتوقف الاستخدام الدائم للصحافة الورقية بين يوم وليلة، فلكل منها جمهوره في الحاضر والمستقبل.
ثالثاً: إن الكتابة الورقية هي جزء من التاريخ الذي مضى برائحته ومؤثراته واصفرار أوراقه بعد حين، وهو أمر غير متاح للكتابة الإلكترونية التي لا تخلق الود مع القارئ مثلما هو الأمر بالنسبة للكتابة على الورق، والذين قالوا قديماً: (إن خير جليس في الزمان كتاب)، لم يكونوا واهمين، إذ إن كلاً منا يتذكر في حياته كتاباً أثر فيها أو ترك بصمة عليها، لذلك فإنه من العبث أن نتصور أن الكتاب سوف يختفي أو أن الصحيفة الورقية سوف تزول، ولكننا مقتنعون في الوقت ذاته بأن زخم التقدم العلمي وثورة المعلومات سوف تأتي دائماً بجديد قد تكون بدايته في المسار الإلكتروني، ولكننا نتوقع بعده أجيالاً من التطور قد لا نتوقعها حالياً.
رابعاً: لقد عدلت بعض المؤسسات الصحافية الكبرى عن الاستسلام للطبعة الإلكترونية وحدها وعادت إلى الطبعة الورقية بينما هناك صحف قامت بالعكس فتوقفت تماماً عن الطبعة الورقية وركزت فقط على الطبعة الإلكترونية ولحسن الحظ أن صحيفتنا الغراء سوف تأخذ بالبديلين معاً، وأنا أتذكر أن صحيفة فرنسية كبرى قد عدلت فجأة عن إلغاء طبعتها الورقية والاكتفاء بالطبعة الإلكترونية، إذ سرعان ما اكتشف أصحاب الصحيفة الشهيرة أن الطبعة الورقية أساسية كما أنها تخدم كل احتمالات المستقبل ولا تتعارض مع تحديث أنماط الكتابة كما أنها لا تستجيب أيضاً لعملية الإقصاء المفاجئ أو الابتعاد غير المبرر.
خامساً: إذا كانوا قد قالوا قديماً (إن لكل زمان آية وأن الصحافة هي آية الزمان)، فذلك صحيح لأنها سجل التاريخ ودفتر الأحوال وقد يكون وجودها الإلكتروني مطلوباً في عصر السرعة ولكن وجود الطبعة الورقية مطلوب أيضاً في عصر المؤثرات التاريخية، فالعلاقة الحميمة بين القارئ والصفحة الورقية هي علاقة تتمتع بدرجة من الثبات ولا تقبل الاهتزاز أمام مؤثرات عابرة، وسوف نظل نحتفي دائماً بالطبعة الورقية حتى بعد أن نستمتع بقراءتها إلكترونياً حتى تبقى لدينا سجلاً لا ينتهي ومصدراً للخبر والرأي لا يتوقف أبداً في تدفقه وسهولة تداوله ويسر الاحتفاظ به.
سادساً: إن التقدم الكاسح في تكنولوجيا المعلومات وتغليب انتقال المعلومة على وسائل التواصل الاجتماعي قد أدى إلى نقلة كبيرة بغير حدود وهذا أمر نعترف به ولا نجادل في وجوده، ولكننا نزعم أيضاً أن الكتابة الورقية، خصوصاً في مجال الصحافة، هي أمر لن ينتهي بسهولة وقد لا ينتهي أبداً لأنه جزء من التاريخ الاجتماعي لكل فرد، بل وتعبير عن الرؤية الثقافية لأصحابها، كذلك فإن الأرشيف الصحافي الورقي تبدو له قيمة أكبر بكثير من الأرشيف الصحافي الإلكتروني، فالأول يبدو أقرب إلى الوثيقة، كما أن حفيف الأوراق له مذاق خاص.
سابعاً: إن الذين يدرسون اقتصاديات الصحافة والنشر يدركون أن للكلمة المكتوبة قيمتها لأن لها دلالتها وخصوصيتها، ولا يمكن أن تكون أبداً تعبيراً وقتياً بل لابد أن تظل شيئاً مألوفاً لدى أصحابها، وإذا كانت الصحف الكبرى تعتبر أن الطبعة الإلكترونية هي التي سوف تنفق عليها وتفيدها خصوصاً بعد أن انتقلت بعض الطبعات الورقية إلى دعاة الكتابة الإلكترونية، ليكتشفوا في النهاية أن الصحيفة الورقية سلعة دائمة الثمن، أما الصحيفة الإلكترونية فإن قيمتها تنتهي بقراءتها إلا من رأى أن يكون له أرشيف يحتفظ بها ولو إلى حين.
ثامناً: ما زلت مؤمناً أن الحاجة إلى الطبعتين معاً، الورقية والإلكترونية، سوف تظل ضرورة لعقود مقبلة، وشفيعي في ذلك أن لكثير من الصحف في العالم طبعة ورقية وأخرى إلكترونية، ولم يحدث بينهما تعارض أو تداخل بل العكس صحيح، لأنها تمكننا من توزيع ما نملك على تلك المصادر المعروفة للتخزين المعلوماتي، والذين يجاهرون بغير ذلك إنما يعتمدون على حجج واهية لا تصمد أمام المقارنة الواقعية.
تاسعاً: إن المقارنة أحياناً بين الكتابة الورقية ونظيرتها الإلكترونية تكون في صف الأولى لأنها تدرك أنها تحمل معاني الرصانة وعبق الماضي ونضوج الفكر، فضلاً عن أنها شاهد على الزمان والمكان والسكان تتحدث باسم عصرها وتعبر بالرمز عن العهود التي مرت بها، بل وتحمل دائماً معها نسمات الحرية وعوامل الاستقرار وتكون بحق شاهداً حقيقياً على العصر بالكلمة والصورة، بالخبر والرأي، بالفكرة والدراسة.
عاشراً: لا أظن أن الصحف الكبرى سوف تتوقف عن إصدار طبعة ورقية، لأن ذلك في غير صالحها بل إن العكس صحيح، إذ إن توفر أسباب الراحة ومصادر السعادة يقترن باتجاه يقترب من مفهوم الكلمة المكتوبة بقدسيتها وهيبتها وتأثيرها.
هذه بعض الخواطر التي ألحت على بمناسبة ما جرى لنا مع صحيفتنا المحبوبة تماماً والمقروءة جداً في بلادنا، ويذكر معي أبناء جيلي تقديرنا لهذه الصحيفة التي شغلت حيزاً كبيراً من تفكيرنا وأثرت تأثيراً واضحاً على مستقبل حياتنا، وسوف تظل الصحافة العربية الورقية محل اهتمام وتقدير لا يدركها إلا كل وطني يؤمن بأن مراحل التطور متداخلة، وأن أسباب التقدم واحدة وأن أهداف الجميع مشتركة ونحن في العالم العربي الذي يعاني الأمية بكل ألوانها، خصوصاً العجز عن القراءة والكتابة لابد أن ندرك أن حجم المأساة سوف يزداد مع القراءة الإلكترونية فنضيف إلى الأمية التقليدية أمية جديدة يمكن أن نسميها الأمية الإلكترونية، وهو أمر يعزز من مكانة الصحافة التقليدية ولا ينهي دورها ويحول دون بقائها، لأن لها جمهورها الذي يرتبط بأجيال عبرت على الطريق، ولم ينقطع وجودها لأن تلك هي دورة الحياة وطبيعة الكون وسنة الوجود.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 17 ابريل 2018
رابط المقال: http://www.alhayat.com/article/848728/رأي/أهمية-الصحافة-المكتوبة