لا أجد وقتاً أنسب للكتابة عن العلاقة بين دول العالم العربي والدول الثلاث غير العربية في المنطقة وأعني بها إيران وتركيا وإسرائيل. أقول لا أجد أنسب من الظروف الحالية للنبش في أعماق تلك العلاقة المؤثرة والتي يحلو لنا أحياناً أن نطلق عليها «مستقبل العلاقة بدول الجوار العربي»، وإذا كانت العلاقات العربية- الإيرانية والتركية قد اتخذت منحى متصاعد الأهمية في العقود الأخيرة، فإن العلاقة بين الدول العربية ودولة إسرائيل لا تزال على ما هي عليه، نعم.. قد تراوح مكانها قرباً أو بعداً ولكنها تظل محور الصراع في الشرق الأوسط، كما أنها تجسد المشكلة الأولى لدى الضمير العربي وسوف نتطرق لمعالجة هذا الأمر في أجزاء ثلاثة من هذا المقال الموجز، نطرح في الجزء الأول منه العلاقات العربية- الإسرائيلية، وفي الثاني نكرسه للعلاقات العربية- الإيرانية ثم ننتهي بالعلاقات العربية- التركية، وجدير بالذكر أن هذا الفصل في حد ذاته معيب من الناحية المنهجية، إذ إن كل علاقة منها تتبادل التأثير والتأثر مع العلاقة الأخرى ولا يمكن فرزها بمعزل عن التأثير المتبادل بينها، والآن دعنا نغوص قليلاً في أعماق تلك التركيبة الثلاثية التي ربطت العالم العربي بتلك الدول الثلاث:
أولاً: لا يمكن اعتبار إسرائيل دولة جوار بالمعنى التاريخي لأنها كيان طارئ على المنطقة، ولكننا نتناولها من جانب آخر، وهي أنها إحدى القوى غير العربية الثلاث في مواجهة تجمع عربي يمتد من المشرق العربي إلى حدود الأطلنطي، ولا شك أن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال هي الشاغل الرئيس لدول المنطقة، فالصراع مفتوح ولا توجد جهود حقيقية لحله اكتفاءً بإدارته بحيث يوظفه كل طرف وفقاً لمصالحه، لذلك استأثرت القضية الفلسطينية بالاهتمام الأكبر من دول المنطقة على اعتبار أن مسارها هو مسؤولية مشتركة بين دول الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل التي أفلتت دائماً من أي إدانة دولية لأن الصراع العربي- الإسرائيلي أصبح مزمناً، وتراكمت بعده صراعات أخرى في المنطقة تبدو أقل حدة، ولكنها تكون أحياناً أكثر تأثيراً بحكم أنها تشغل الواقع المعاصر وتسحب الأضواء عن الصراع الأصلي، وهو الصراع العربي الإسرائيلي، وقد تتصل تلك الصراعات الطارئة بالدولتين إيران وتركيا ودور كل منهما في افتعال المشكلات وخلق العقبات وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، وقد تأرجحت العلاقات العربية- الإسرائيلية بين الشد والجذب من الجانبين إلى أن دخلت في مرحلة مختلفة بسياسات «كامب ديفيد»، والتي انتهت بتوقيع اتفاقية سلام مع مصر تلتها بعد ذلك بسنوات اتفاقية «وادي عربة» بين الأردن وإسرائيل، وبذلك دخلت شرعية الوجود الإسرائيلي طوراً جديداً أثر تأثيراً واضحاً على طبيعة الصراع وحدوده، ونستطيع أن نزعم الآن أن الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي جوهره المشكلة الفلسطينية، قد أصبح يتجه فقط إلى ما يمكن اعتباره «إدارة للصراع» وليس محاولة للحل، فالمشكلات المزمنة تؤدي إلى تعوّد أصحابها لوجودها ومضيها على طرق ممتدة تسقط الزمان من حسابها، وتبدو في النهاية وكأنها معطاة تاريخية أكثر منها مشكلة دولية أو إقليمية، لذلك فإن العلاقات العربية- الإسرائيلية هي من ذلك النوع المعقد والذي تتداخل فيه العوامل السياسية بالدلائل التاريخية والأسانيد الدينية، ولكنه يبدو في النهاية واحداً من أكثر القضايا المعاصرة تأثيراً في السلم والأمن الدوليين، خصوصاً في منطقة «الشرق الأوسط».
ثانياً: إن العرب وإيران يمثلون في مجموعهما حالة خاصة من حالات القلق التاريخي منذ الفتح الإسلامي ومواجهة الدولة الصفوية الشيعية للدولة العثمانية السنية لقرون عدة، لكنها ظلت دائماً في إطار من الالتزام بحد أدنى من العلاقات المستمرة دائماً والمستقرة أحياناً بين العرب والفرس، إلى أن جاءت الثورة الإسلامية والتي وصل رموزها إلى الحكم في طهران في شباط (فبراير) عام 1979، فأصبحنا أمام نموذج مختلف للدولة الفارسية يقوم على مبدأ تصدير الثورة وإحداث حالة من الارتباك والقلق في المنطقة أدت إلى دخول العراق كدولة عربية في حرب مع إيران استمرت لثماني سنوات، حصد خلالها الطرفان مزيداً من التباعد وتأصيل مشاعر الشك المتبادل وتكريس الثقة المفقودة، ولقد بدأ يتجسد في المنطقة ما يمكن تسميته «المد الإيراني»، وهو نوع من التقدم نحو دول المنطقة تحت مظلة الإسلام الشيعي تارة، وتصدير الثورة الإسلامية تارة أخرى، أو استثمار الخلافات العربية العربية تارة ثالثة، وفي ظننا أن الصراع مع إيران هو صراع قومي بالدرجة الأولى، وإن حاول البعض إلباسه ثوباً دينياً، فتلك محاولة محكوم عليها بالفشل لأن الفوارق بين أهل السنة وأتباع مذهب الشيعة الإثنى عشرية محدودة فإلاله واحد، ونبيهما واحد، وقرآنهما واحد، وقبلتهما واحدة وأركان دينهم واحدة، فكيف نتحدث عن خلاف ديني؟! بينما هو اختلاف تاريخي يرجع إلى سنوات الفتنة الكبرى في مطلع الدولة الإسلامية على عهد الخلفاء الراشدين وما انتهت إليه تلك الواقعة من جرم أهل العراق بحق الحسين- سيد الشهداء- وهو ما جعلهم حتى الآن يأسفون عليه ويشعرون بالذنب تجاهه، ولا يتوقفون عن جلد الذات مع الإدانة الداخلية التي جعلتهم يدركون أن الخطأ في حق أهل البيت هو خطيئة تلاحق أصحابها إلى آخر الدنيا، وما زالت طهران تدس أنفها في كل شأن صغير أو كبير في منطقة الشرق الأوسط، وتعتبر نفسها هي حامية الحمى وهي حاملة الملف النووي أمام الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية.
ثالثاً: تبدو العلاقات العربية- التركية ذات شجون فهي تضرب بأعماقها في جذور التاريخ لتشير إلى حقبة من السيطرة التركية لأكثر من سبعة قرون على المنطقة كلها، حيث نشرت الظلم والظلام وكانت نموذجاً للاحتلال المستبد الذي يلبس عباءة الدين ويضع على رأسه عمامة الإسلام ويحكم باسم خلافة، لا نكاد نجد لها سنداً تاريخياً باستثناء أن الخلفاء الراشدين كانوا هم الأربعة امتداداً للدولة التي أسسها النبي عليه السلام، وبخلاف ذلك فإن أي مفهوم آخر للخلافة هو حديث عن ملك عضوض يأتي بالقوة المطلقة ولا يعتبر تعبيراً دينياً بقدر ما هو تسلسل تاريخي، إلى أن سقطت الدولة العثمانية في مطلع عشرينات القرن الماضي تحت وطأة التغييرات التي بشر بها وقام بتطبيقها الذئب الأكبر مصطفى كمال أتاتورك، وقد اتخذ الأتراك دائماً منهجاً في التعامل مع العرب يقوم على مسحة استعلائية مع شعور دفين بأن العرب لا يحبونهم في أعماق قلوبهم، وخير دليل على ذلك تحالفهم بقيادة الشريف حسين مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى مع وعد بالاستقلال وتكوين مملكة العرب تحت رعاية ذلك العرش الهاشمي، ولكن الأمور سارت في غير ذلك الاتجاه وانتهت بانتكاسة عربية وخروج الأتراك بدولة علمانية جديدة تتعامل مع الدول العربية خارج إطار الدين المشترك، وتنظر إلى التاريخ بشعور من المجد الدفين والإحساس بالذات المبالغ فيه، ولكن ظلت الأطماع التركية في الأراضي العربية كامنة لا تنتهي، وكلما سنحت الفرصة ظهرت الدولة التركية على حقيقتها فهي حليف استراتيجي لإسرائيل على أنقاض الحقوق الفلسطينية بل والشرعية الدولية، ولقد مارست «تركيا أردوغان» أدواراً أكثر خطورة وتسلطاً لذلك الخليفة العثماني الجديد الذي لا يكف عن إبداء مشاعر السيطرة والرغبة في القيادة للمنطقة العربية، كما كان الحال لقرون عدة مع إطلالة تركية متعجرفة بين الحين والآخر يحاول أردوغان أن يلقن فيها ملايين الشباب مشاعر الولاء للدولة التركية التي تحالفت مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر لتحصل على شرعية دينية جديدة بديلاً لتلك التي تهاوت مع سقوط دولة الخلافة، وحتى يستعيد أردوغان أمجاد الأتراك، فإنه سعى إلى إحياء دولة الخلافة التي تقودها تركيا من جديد مع مباركة دينية من جماعة الإخوان المسلمين والشرعية المستمدة من قبول مكتب الإرشاد لذلك التصور، وهي أحلام أطاحها الجيش المصري مدفوعاً بضغوط شعبية قوية لإجهاض المخطط وإسقاط رموزه، وكان ذلك في الثالث من تموز (يوليو) عام 2013، بعدما احتشدت الملايين الغاضبة من حكم الإخوان الذي لم يستمر إلا سنة واحدة.
هذه قراءة عامة في دول ثلاث لها نهج خاص تجاه المنطقة العربية مع رؤية ذاتية باستمرار الواقع والقبول بمشكلاته وأزماته، ولكن المشكلة الحقيقية جاءت من أن العرب لا يلتقون على كلمة سواء ولا ينجحون أحياناً في اتخاذ قرار موحد تجاه القضايا التي تمس المصالح العليا للدول العربية مع تفهم كامل للمشكلات النمطية التي تجعل تلك الدول مختلفة عن غيرها، لذلك فإنني أظن أن التعامل مع الملفات الثلاث التي تضم الإطار المستقبلي للتعامل بينها للوثوب على الواقع والاتجاه نحو مرحلة أفضل في العلاقات العربية بدول الجوار، تكون علاقات صحية لا تعتمد على التدخل في الشأن الداخلي أو محاولة فرض إرادة منفردة على سياسات الإقليم، مثلما تفعل الدول الثلاث التي ذكرناها في مناسبات مختلفة وبحجج متنوعة. نعم، إننا نعترف بأن المخاطر ليست بالدرجة نفسها وأن بعضها أصلي والآخر ثانوي، لكننا نفكر في النهاية من منطق عربي يشعر بأنه قد جرى التعامل معه في العقود الأخيرة بإهمال وتهميش أمام ربيبة الغرب إسرائيل، وحاملة الملف النووي في المنطقة إيران، ودولة الأطلنطي التي صرفت النظر عن عضوية الاتحاد الأوروبي لكي تقوم بالتركيز على قيادة المشرق العربي من جديد، وأقصد بها الدولة التركية، وبذلك يكتمل الطوق حول هذه الدول العربية ومقدراتها مع البحث في أسلوب التعامل القومي معها، وتوحيد الصف في مواجهة أفعالها، حتى لا ينتهي الأمر ونحن بحق «الأيتام على مائدة اللئام».
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 1 مايو 2018
رابط المقال: http://www.alhayat.com/article/4577968/%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB