للشاعر فاروق جويده مكانة خاصة لدى جمهور عريض من متذوقى الشعر العربى الذين يدركون قيمة المعانى والأفكار التى تقف وراء من يكتبون الأناشيد والأشعار، وفاروق جويدة هو كاتب نشيد الجيش المصرى الباسل، وقد ارتبط دائمًا بالتاريخ الوطنى فى مصر, بل هو واحد من أبرز شعراء العروبة أيضًا، تغنى بأمجادها وطرب معه الناس بأهازيجها، ولقد ربطتنى بذلك الشاعر الصديق سنوات طويلة من الزمالة والمحبة فنحن ننتمى إلى محافظة واحدة فى شمال غرب الدلتا هى محافظة البحيرة، وكان لنا رفاق آخرون صعد منهم اثنان إلى الرفيق الأعلى هما العالم الكبير صاحب نوبل أحمد زويل, واللواء الدكتور محمد العصار أحد أبناء القوات المسلحة البواسل، وكنت ألتقى مع أحمد زويل وفاروق جويدة نحتسى أقداح الشاى على مقهى الفيشاوى عندما يزورنا العالم الكبير بين حينٍ وآخر فنتحدث فى ذكريات الوطن وآماله وأمانيه، وكان فاروق جويدة دائمًا مصدر إلهام لكل من يجلس معه بسبب وضوحه الظاهر وصراحته المعروفة وشاعريته المتدفقة وعاطفته الوطنية المتأججة، وقد يدهش الكثيرون إذا عرفوا أن فاروق جويدة قد بدأ محررًا اقتصاديًا بالأهرام وهو مؤهل لذلك علميًا لسنوات دراسته الجامعية، لكنه استطاع فى الوقت نفسه أن يحافظ على علاقته بمملكة الشعر ثقافة وإبداعًا، ونجح فى أن يمزج بين المعرفة والعاطفة حتى إنك تحتار كيف تصفه هل هو مفكر أم شاعر، وهو فى ظنى الاثنان معًا، وأنا أكتب عنه اليوم قارئًا لعموده الشهير فى الصفحة الأخيرة بالأهرام والذى يضيف به جديدًا لكل من يقرأه ويفتح أبواب الأمل أمام من يحتاجون للرعاية ويفتقدون الحماية، سواء كانت مادية اجتماعية أو إنسانية ثقافية، وفاروق جويدة مصرى غيورٌ على المال العام والثروة العقارية المصرية والقصور التاريخية وهو معنيٌ أيضًا بالمشكلات التى تعترض طريق المصريين والعرب، كذلك، فهو قومى التوجه وطنى النزعة، وقد زاملته فى عدد من المحافل الفكرية والثقافية لعل أهمها المجلس الأعلى للثقافة، وكنت أحترم دائمًا مداخلاته الذكية وآراءه الصائبة وأطروحاته الجريئة، وفى كل يوم جمعة يطالعنا بمقالٍ كبير أقرب إلى الدراسة أو البحث العلمى يذيله بجزء من أشعاره ويتوجه بأبياتٍ رصينة ترتبط بمناسباتٍ معينة فى حياة الوطن، ولأن شاعريته رقيقة وكلماته منتقاة، فإنه يستقر فى وجدان البشر ويبقى فى خزينة الذكريات عبر السنين، إن فاروق جويدة هو أفضل من كتب عن الحب بمعناه السامى ومفهومه الراقى، وهو الذى ملأ الدنيا أشعارًا وأفكارًا، ورغم ذلك فهو مشغول ومعنى بمشكلات الناس وما يضايق البشر يكتب عن المأزومين ويتلقى رسائل أصحاب الشكايات ويبحث عن حلولٍ لها ويخاطب المسئولين بشأنها، وله حساسية خاصة وشفافية شديدة تجاه إهدار المال العام أو محاولات السطو عليه، ولقد وظف شعره فى خدمة الأغراض الإنسانية والأهداف الكبيرة، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولاً: إن فاروق جويدة تعبير عن جيل مصرى كامل تخرج فى مواجهة نكسة يونيو 1967 وعاش صراعًا حقيقيًا بين كاريزما الزعيم ومرارة الهزيمة، فجاءت عباراته تعبيرًا أمينًا عن مرحلة أليمة فى تاريخ الوطن عبر فيها الشعب المصرى عن صموده وكسر حاجز الخوف وأزال آثار العدوان.
ثانيًا: إن انتماء فاروق جويدة - من البداية إلى النهاية – لصحيفة الأهرام هو تعبيرٌ عن استقراره النفسى وثبات طموحاته وإيمانه بأنه لا يصح إلا الصحيح، لذلك فإنه أصبح بحق رمزًا من رموز هذه الصحيفة العريقة فى عقودها الأخيرة واستطاع أن يشد القراء فكرًا وثقافة وشعرًا.
ثالثًا: أضيف إلى ذلك أن فاروق جويدة تعبير عن الريف والحضر عن مصر والعرب عن المحلية والعالمية، لذلك ربطته صلات وثيقة بشخصيات كبيرة أكبر منه سنًا من أمثال توفيق الحكيم ومحمد عبد الوهاب ونجيب محفوظ وغيرهم من الأدباء والمثقفين من العقد الذهبى فى تاريخ الكنانة.
رابعًا: إن فاروق جويدة الذى ارتبط بمهرجانات الشعر العربى فى مختلف أقطاره هو ذاته صاحب المقالات الجريئة والمواقف السليمة فى مناسبات مختلفة ومتعددة، وهو الذى جعل الصحافة فى خدمة الشارع ليرفع حاسة التذوق عند القراء ويحلق بهم فى آفاق الأمانى والأغانى فكان بحق ابن جيله وتعبيرًا صادقًا عن عصره ورمزًا من رموزنا الفكرية والثقافية.
خامسًا: إن فاروق جويدة متحفظٌ بطبيعته عازفٌ عن كثيرٍ من مظاهر البهرجة مكتفٍ بقدرٍ كبير من العزلة الهادئة والصبر الجميل، حتى ترى فى وجهه هدوء الشعراء الحالمين ونظرات المفكرين الكبار.
إننى أكتب هذه السطور تحية لواحد من أبناء جيلى يستحق أرفع تكريم وأنا أردد قوله تعالى (.. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ..)، وسوف يظل فاروق جويدة رمزًا حيًا فى ضمير الفكر والثقافة والشعر والأدب على امتداد الأجيال.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/857347.aspx