لكل قرن فى التاريخ شخصيات تطفو على السطح وتبدو مؤثرة أكثر من غيرها فى مجريات الأحداث وتطور الأمور، وليس بالضرورة أن تكون تلك الشخصية قد قامت بأعمال مجيدة أو حققت انتصارات رائعة، ولكن العبرة فى النهاية تكون بأثر تلك الشخصيات العظمى التى ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولو بدأنا بقارات العالم الثلاث أوروبا وآسيا وإفريقيا فسوف نجد تطبيقًا مباشرًا لهذا المفهوم، فأوروبا القرن التاسع عشر قدمت للعالم نابليون بونابرت بحروبه وغزواته وانتصاراته وهزائمه وإخفاقاته وفى نهايته أسيرًا حبيسًا يموت معزولاً عن البشر بعد أن أحدث تغييرات هائلة فى فرنسا أولاً ثم أوروبا حتى عصفت به معركة ووترلو، أما أوروبا القرن العشرين فهى التى قدمت أدولف هتلر الذى شيد الرايخ الثالث وحاول بحمق شديد أن يثأر لهزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى ومضى النازى يبتلع الدول الأوروبية الواحدة تلو الأخرى ويقطع أوصال الخريطة السياسية خلال الحرب العالمية الثانية، والتى انتهت بهزيمته بعد عشرات الملايين من الضحايا واضطر إلى الانتحار على أرجح الأقوال فكانت نهايته شبحًا مخيفًا لفصلٍ مؤلم فى تاريخ أوروبا والعالم، وليس يعنى ذلك أن الجانب السلبى هو المسيطر على قارات العالم القديم فى القرنين الماضيين فإذا كان هناك من أضر ببلاده بعد الثورة الفرنسية مثل نابليون بونابرت فإن هناك على الجانب الآخر الزعامة المنقذة للرئيس العملاق شارل ديجول بما كان يمثله من قيم وشرف وكبرياء الإنسان المعاصر، وإذا انتقلنا إلى القارة الآسيوية فإننا لا شك سنضع المهاتما غاندى زعيم الهند التاريخى ورجل المقاومة السلبية وأسطورة عصره بل وكل العصور على قمة القارة فى القرن العشرين، ونرى فيه النموذج الرائع لفلسفة خاصة اعتنقها الملايين من البشر امتدادًا لذلك الراحل العظيم الذى دفع حياته على يد مهووس متعصب قتل ذلك الزعيم الأعزل وقضى على تلك الروح الفريدة فى تاريخ الإنسانية، ومازالت أصداء فكر المهاتما وأسلوب تفكيره مدرسة إنسانية كبرى تضم ألوانًا من مختلف الثقافات والديانات والجنسيات، وهو فى ظنى الأب الروحى لا للقارة الآسيوية وحدها ولكن لمئات الملايين من البشر فى بقاع الأرض من مختلف الأجيال، تسبقه بقرون نماذج أخرى سفكت الدماء وأزهقت الأرواح بدءًا من جنكيز خان وصولاً إلى سليم الأول، فالقارة الآسيوية هى القارة الأم وهى أكبر قارات العالم وأكثرها اكتظاظًا بالبشر، لذلك فإننا نتذكر أيضًا العم ماوتسى تونج صاحب المسيرة الكبرى أو الزحف الطويل فى سنوات الثورة الصينية التى غيّرت معالم القارة بل وأقول غيرت معالم العالم كله، إنه الرجل الذى قال «دع مائة زهرة تتفتح» وكان نموذجًا فريدًا للصلابة والقوة وعبر عن شخصية الصين الحديثة كما لم يفعل غيره من قبل، لذلك فإننى أراه نموذجًا آسيويًا باهرًا يمكن أن يأتى بعد المهاتما فى تاريخ آسيا خلال القرن العشرين، وإذا وصلنا إلى قارتنا إفريقيا السمراء بأنهارها ووديانها وسهولها فإننا نقف احترامًا للمناضل الجسور نيلسون مانديلا الذى قضى فى السجن سبعة وعشرين عامًا إيمانًا منه بقضية بلاده وحربًا على العنصرية التى مزقت القارة بل وضربت الإنسانية فى مقتل حين تكون التفرقة بين البشر بسبب ألوانهم، إنه نيلسون مانديلا العظيم الذى التقيته مع الرئيس الراحل مبارك فى عاصمة ناميبيا عشية استقلالها وكان يتحدث عن عبدالناصر بعاطفة شديدة ويتذكر الوزير محمد فائق بكل الاحترام الذى يليق به وبتاريخه الناصع، لذلك فإننى أرى أن مانديلا هو النسخة الإفريقية من الطبعة الآسيوية المهاتما غاندى، ولا يخفى علينا أن المهاتما قد قضى سنواتٍ من شبابه يعمل فى جنوب إفريقيا وكأن التواصل بين القارتين قديما قديما، لذلك كان تأثير المهاتما على مانديلا قويًا قويًا، ولا أدرى لماذا يلح عليَّ اسم الحبيب بورقيبة كصفحة مثيرة فى تاريخ القارة الإفريقية فهو الرجل الذى تمرد على المسلمات وفكر خارج الصندوق ودعا إلى تمكين المرأة وتحدث كثيرًا عن فهمٍ عصرى لروح الإسلام الحنيف، كما دفع المجتمع المدنى إلى الأمام لذلك فإننى أراه شخصية إفريقية كبرى فى الوقت الذى لا أغمط فيه كاريزما ومكانة عبدالناصر حقهما مع الاختلاف الكبير بين دور الرجلين وتفكيرهما، فعبدالناصر كان ثائرٍا قاطعًا بينما يبدو بورقيبة سياسيًا يؤمن بالتدرج فى التطبيق والمرحلية فى حل المشكلات.
رحم الله الجميع وهم فى عالم آخر، تركوا للبشرية ميراثًا طويلاً فيه السلبى والإيجابى ولكنه يبقى وديعة لدينا إلى يوم البعث.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/858133.aspx