والمقصود هنا بالطبع هو القضية الفلسطينية فهي قضية العرب الأولى ومركز اهتمام العالم الإسلامي وواحدة من أخطر بؤر الصراع الدولي، ولقد ظهرت في السنوات الأخيرة شواهد توحي بأن القضية تكتسب أصدقاء جدداً ولكنهم لا يملكون قوة التأثير التي تجعل تأييدهم ضغطاً سياسياً بل يملكون فقط التعاطف الذي يجعل دعمهم إنسانياً وإعلامياً وربما لا يتجاوز ذلك بحكم خريطة المجتمع الدولي ومراكز القوى فيه، وإذا كانت بريطانيا هي العراب الأول لإسرائيل ثم لحقت بها فرنسا لفترة قصيرة إلا أن الولايات المتحدة الأميركية قد قررت من البداية أن تحمل الليلة برمتها وأن تكون شريكاً كاملاً للشعب اليهودي والدولة الإسرائيلية بالحق وبالباطل، إعمالاً لمبدأ أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وفي يقيني فإن الأغلب الأعم ممن يؤيدون سياسات إسرائيل إنما يدركون في أعماقهم حجم المعاناة التي يشعر بها الفلسطينيون والثمن الفادح الذي دفعه ذلك الشعب الذي كنا نطلق عليه شعب اللاجئين فإذا هناك شعوب عربية كانت تدعمه قد أصبحت تلحقه.
فالكل يتحدث عن اللاجئين السوريين أيضاً وبذلك امتدت مساحة القلق والتوتر والمعاناة لتغطي دولاً بالكامل في المشرق العربي وربما في المغرب العربي أيضاً، لقد أصبحنا إزاء وضع مأسوي ملتبس لا يمكن إبراز الحقيقة فيه على نحو يجمع عليه الكثيرون فالدولة الفارسية (إيران) أصبحت خصماً لعرب الخليج والدولة العثمانية (تركيا) أصبحت طرفاً لاعباً فوق الأرض السورية محملة بأطماع تاريخية وأحلام سلطانية، أما والحال كذلك فإن القضية الفلسطينية قد توارت هي الأخرى ولم تعد لها صدارة في الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد ذلك أن هناك أخباراً جديدة ومواقف مثيرة لم يكن لها وجود من قبل وأنا ممن يزعمون أن أحداث الربيع العربي قد وجهت ضربة كبيرة للقضية الفلسطينية، ربما من دون ترتيب مسبق أو موقف متعمد ولكن الذي حدث هو أن الحصيلة النهائية قد دفعت دول الربيع العربي إلى الانكفاء على ظروفها الداخلية والانشغال بأوضاعها المضطربة وأصبحت نشرة الأخبار الأهم هي تلك التي يدور توقيتها ما بين الثامنة والتاسعة مساءً فاستأثرت بذلك محطات تلفزيونية واسعة الانتشار ذائعة الصيت، كما أن نوعاً من الملل قد أصاب مؤيدي القضية الفلسطينية، فمنهم من طال عليه الأمد ومنهم من انصرف عنها لعدم جدوى دوره ومنهم من تأثر بالعقل الغربي الذي يصمم أحياناً على أن (3+2=6 وليست 5) فالمغالطات علنية والمؤامرات أصبحت ترتدي ثياب المبادرات السياسية لأننا أمام عالم اختلف فيه كل شيء ولم يعد من الممكن القياس الكامل على الماضي من أجل الحاضر ولكي أطرح تصوراتنا في هذا المقال الموجز فإنني أتقدم بالنقاط التالية:
أولاً: لقد قطعت القضية الفلسطينية منذ بروزها على الساحة الدولية مراحل مختلفة ولو جعلنا قرار التقسيم هو نقطة البداية فإننا نعترف أن التأييد الدولي لإسرائيل كان كبيراً ولم يكن الجهد العربي كافياً من الناحيتين السياسية أو الإعلامية لإعطاء انطباع مختلف، ويجب أن نتذكر أن الاتحاد السوفياتي السابق اعترف بالدولة الإسرائيلية فور إعلانها بساعات قليلة بينما كان الغرب وفي مقدمه الولايات المتحدة الأميركية داعماً صريحاً للدولة الوليدة ولم يدرك العرب وقتها أن هناك فرصة للتسوية حتى وإن لم تكن عادلة تماماً، إلا أنها أفضل المتاح واعتمد العرب بعد ذلك سياسة استبعادية إقصائية هروبية عن الواقع واعتبروا أن إنكار وجود إسرائيل يعني غيابها ويكفي مبرراً لمقاومتها في المجتمع الدولي ومطاردتها بالمنظمات الدولية، ولقد أسهم المد القومي الناصري في إبراز ذلك التوجه واعتبار أن كل من يكون مع إسرائيل هو ضدنا بحيث نتركه كاملاً لها ولا نفكر في إمكانية استمالته لوجهة النظر العربية وبذلك تحولنا إلى أمة تفكر تفكيراً حدياً لا يرى بين الأبيض والأسود ظلالاً لألوان أخرى فكانت النتيجة أن خسرنا كثيراً من الدول المتأرجحة والتي جاء تأييدها لإسرائيل نتيجة غياب المعلومات الصحيحة على أرض الواقع وأيضاً نتيجة لعمليات (غسيل المخ) التي نجح الإعلام الإسرائيلي في تأكيدها لدى الأغلب الأعم من دول العالم وفي ظني أيضاً- وقد أكون مخطئاً– أن السنوات الأولى في عمر إسرائيل كانت تحمل احتمالات أكبر للتسوية حيث لم تمتلك إسرائيل وقتها القوة الرادعة لجيرانها كما أن الحماسة لها ولدورها الاستيطاني التوسعي العنصري لم يكن قد استقر على النحو الذي هو عليه الآن وقد كانت بعض الأفكار والمبادرات كفيلة لفتح جسور للتسوية ولقد حاول عبدالناصر ذاته ذلك ولكن كانت هناك دائماً عناصر إسرائيلية متشددة قادرة على إجهاض تلك الأفكار من بدايتها.
ثانياً: ارتكزت إسرائيل بعد قيامها لا على الدعم الدولي وحده ولكن على القبول الإقليمي الذي تمثل أساساً في «إيران الشاه» و «تركيا الأطلنطي» وشرق أفريقيا خصوصاً إثيوبيا كدولة مدخل للقارة السمراء، ولقد تصاعدت الروح العربية الرافضة لإسرائيل والمعادية لجرائمها المتكررة بدءاً من مذبحة «دير ياسين» حتى شهداء القدس عاصمة إسرائيل! في أيار (مايو) 2018، ولقد برعت إسرائيل في الإفادة من كل القوى الدولية المؤيدة فاعتمدت على فرنسا في برنامجها النووي وإنشاء مفاعل «ديمونة» حيث كان «شيمون بيريز» هو الطرف الإسرائيلي العراب للتسهيلات التي قدمتها فرنسا للبرنامج المبدئي الذي اعتمدته الدولة العبرية ثم تنامى بعد ذلك ليصبح ترسانة نووية إسرائيلية تمثل قوة ردع أخيرة يمكن لها أن تستخدمها إذا لزم الأمر مثلما فكرت في حادث الثغرة «الدفرسوار» على الجبهة المصرية في حرب 1973.
ثالثاً: لم تظهر القاعدة القانونية الدولية عاجزة عن التطبيق مثلما هو الأمر حيال القضية الفلسطينية التي ضربت فيها الولايات المتحدة الأميركية بالشرعية الدولية عرض الحائط وألقت بالقرارات الداعمة لفلسطين في سلة النفايات، بل إن العوار الفاضح للتعاطي الدولي مع القضية الفلسطينية إنما يتجسد في امتناع المجتمع الدولي عن تطبيق قرارات الأمم المتحدة وبعضها ملزم والسبب في ذلك ببساطة هو أن إسرائيل وحلفاءها كانوا يقومون دائماً بحرب علاقات عامة نشطة لا يجاريها فيها العرب الذين لا يملكون أدوات التأثير في الاقتصاد والإعلام الدوليين، ولست أشك في أن الهوة السحيقة في مستويات البحث العلمي والتقدم التقني بين العرب وإسرائيل كان لها أثرها الذي لا يمكن إنكاره في توسيع الفجوة وخلق مساحة لم يستطع أحد تجسيرها من الجانب العربي، فالصراع العربي- الإسرائيلي هو صراع عقول وليس صراعاً مرحلياً على حدود معينة أو أرض محددة إنه يتجاوز ذلك إلى التفوق الكبير الذي حققته إسرائيل على المستويات التكنولوجية والأكاديمية وهو ما عجزت عنه معظم دول المنطقة.
رابعاً: إن محاولة تديين القضية الفلسطينية ليست ضارة بالقضية وحدها ولكنها ضارة تحديداً بالموقف العربي الإسلامي، فنحن حين نتحدث عن القدس ثم نشير إلى مكانتها التاريخية والدينية فإن لدى الطرف الآخر من الدعاوى والأسانيد الملفقة ما يسمح له بأن يردد على مسامع المجتمع الدولي أكاذيب بغير حدود، أما إذا قلنا أن القدس هي أرض فلسطينية محتلة في حرب حزيران (يونيو) عام 1967 فإن الأمر يبدو مختلفاً ومعبراً في الوقت ذاته عن طبيعة الصراع، فالقضية ليست أن هناك خلافاً تاريخياً على الأرض بقدر ما هو خلاف قانوني موثق يرتبط بالوجود قبل الحدود ويرتبط بالعلاقة التاريخية بين الشعب الفلسطيني وأرضه على امتداد القرون.
خامساً: إن الذي يتأمل مسيرة التأييد الخارجي للشعب الفلسطيني سوف يندهش من ذلك التحول الذي طرأ على بعض القوى الكبرى وأدى إلى تراجع دعمها لتلك القضية العادلة، لقد خدمت شخصياً في سبعينات القرن الماضي ديبلوماسياً في الهند وكنا نعول كثيراً على الدعم الهندي شبه المطلق للقضية الفلسطينية ونراه أمراً مفروغاً منه ولقد عدت إلى الهند في زيارة بعد غياب امتد لعشرين عاماً لكي أرى بعيني التحولات الجذرية والاختلافات الكبيرة في السياسة الهندية تجاه إسرائيل، التي انتقلت من القطيعة الكاملة إلى حد التعاون الشامل والكامل في المجالين العسكري والنووي، وعلى الجانب الآخر زار رئيس دولة الصين إسرائيل وأمضى فيها خمسة أيام كاملة يسبح في النهر ويستجدي في الحصول على تطورات تكنولوجية لأحد الأسلحة الأميركية من خلال دولة إسرائيل، بل إن روسيا التي تصور كثير من العرب أنها داعم دائم للقضية الفلسطينية قد تأرجحت هي الأخرى في مواقفها وأصبحت ترى الأمر من منظور جديد حتى إن الرئيس الروسي الحالي بوتين يغازل نتانياهو سياسياً ويعتبره صديقاً وشريكاً في سياسات الشرق الأوسط.
هذه رؤية شاملة وموجزة لطبيعة العلاقات بين القضية الفلسطينية والرأي العام العالمي ولقد ضمنتها في كتاب لي منذ سنوات قليلة جعلت عنوانه (فلسطين من التأييد السياسي إلى التعاطف الإنساني)، ذلك أنني أشعر ومعي الكثيرون أن القضية قد فقدت الكثير من التأييد السياسي وأصبحت تحظى فقط بمزيد من التعاطف الإنساني والفارق بين الاثنين كبير، فالتأييد واقع سياسي والتعاطف شعور إنساني وفي الحالتين تختلف الرؤية وتتفاوت النظرة وتتأرجح القضية لتراوح مكانها على ما هي عليه عبر السنوات الطويلة والعقود المتتابعة والأزمنة المتعاقبة.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 29 مايو 2018
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/4583387/%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D9%8A%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D8%B7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A