أسعدنى الحظ بأن أكون قريبا من رجلين تنسما ذروة المكانة الثقافية بقيادتهما لمكتبة الإسكندرية، منارة مصر الثقافية، مهد الجدل التليد بين العقل والإيمان، الفلسفة والدين، فى جل العصور التاريخية. الرجل الأول الذى أسلم رايتها للتو هو د. مصطفى الفقي، الغنى عن التعريف بقدر غنى معارفه وتعدد نشاطاته واتساع خبراته بالحياة والبشر. كان طالبا نابغا بكلية الاقتصاد، ورئيسا لاتحاد طلابها. اقتحم العمل الدبلوماسى بعد تخرجه انطلاقا من لندن وصولا إلى الهند، حتى صار سفيرا وممثلا لمصر فى وكالة الطاقة الذرية فى فيينا. ولسنوات طويلة كان بجوار الرئيس الأسبق حسنى مبارك سكرتيرا للمعلومات، ينتظر الجميع كتاباته وندواته وتصريحاته، ليتعرفوا على ما يجول فى عقل الرئيس. استمر دوره السياسى بعد خروجه من منصبه على النحو المعروف، وضمنه تجربته الإشكالية فى مجلس النواب، التى حرمته من قيادة مؤسسة الفكر العربى عند إنشائها فى بيروت عام 2000. فقد حكى لى الصديق الكبير الراحل د. سليمان عبدالمنعم أن الفقى كان المرشح الأول لها، لكنه اعتذر مرشحا د. أسامة الغزالى حرب، الذى اعتذر بدوره مرشحا د. سليمان نفسه، الذى قاد المؤسسة بنجاح لسنوات طويلة وضع خلالها جل تقاليدها المرعية. ورغم تنوع تجارب الفقى الدبلوماسية والسياسية والثقافية، حيث أصدر عشرات الكتب المهمة، لازمه شعور بأن شيئا ما ينقصه، ودورا ما لم يلعبه. كان قد رُشح فى دوائر ضيقة لأمانة الجامعة العربية لكن الأمر لم يكتمل، وربما طمح إلى وزارة الخارجية لكن الظروف لم تخدمه، فاعتقد أنه من سكان الطابق المسحور، الذى لا يتوقف المصعد عنده أبدا، لتفوت على أصحابه فرص النجاح الباهر، لكن الفرصة أتته بقيادة مكتبة الإسكندرية. إنه المنصب الذى لا يتفق فقط مع شخصيته كمثقف ودبلوماسى بل يكاد يتطابق معها، ولهذا نجح فى قيادتها لخمس سنوات انتهت مع تتويجها بجائزة الشيخ زايد للكتاب، وهى جائزة كبيرة تمنح فقط للمؤسسات البالغة التميز، وللتجارب ذات البصمة والأثر.
يعلم أغلب الناس تاريخ الرجل، لكنهم قد لا يعلمون مدى إنسانيته وقدرته على خدمة الناس بمحبة وتواضع. فعلى سبيل المثال، وفى إحدى زياراتى لمكتبه، وجدته يسأل أحد السعاة عما جرى لأمه المريضة، ليدور بينهما حوار جانبى فهمت منه أنها فى فترة نقاهة من عملية جراحية أجرتها على نفقته أو تحت رعايته. ومن حوار مشابه مع عامل المصعد، فهمت أن الشاب الصعيدى تشاجر مع أخيه إلى حد الفراق، قبل أن يتصالحا بوساطته ودعمه. والحق أن تلك المواقف النبيلة هى أكثر ما يؤثرنى للكبار، خصوصا إذا كانت إنسانية خالصة، بعيدا عن كاميرات التصوير. بل إننى شخصيا نلت قدرا من إنسانيته، حينما بادرنى بالاتصال بعد قراءة ملف نشر لى على صفحتين بالأهرام، كان الثالث ضمن ثمانية ملفات حول قضايا الإصلاح الدينى والتجديد الثقافي. أبدى إعجابه الشديد بالملفات الثلاثة، وتشوقه للباقى منها. وعندما نشرت تكرر الاتصال مصحوبا بإصرار شديد على جمعها بين دفتى كتاب، ومتابعة متكررة لمراحل عملية النشر، فما كان منى إلا أن أهديته إليه اعترافا بفضله. واليوم، أود تأكيد محبتى له، رغم أى اختلاف يثور حول مواقفه السياسية الموسومة بالمحافظة. أقول ذلك لأن البعض، عند تقييم الشخصية العامة، يحشرها فى الزاوية الوحيدة التى لا تعجبه، مهدرا باقى جوانبها المضيئة وأدوارها الخلاقة، وهو منهج عقيم لا ينم إلا عن ضيق أفق. فشكرا جزيلا للأب الكريم مصطفى الفقي.. لقد أضأت حياتنا، وبعثت فيها دفئا كبيرا، بتواضعك الجم وإنسانيتك العميقة، ولا تزال تثريها مثقفا وكاتبا.
أما الرجل الثاني، الذى تسلم الراية لتوه، فهو د. أحمد زايد، الذى لا أظن أن مثقفا مصريا أو عربيا يختلف معى حول قيمته، كأحد أبرز وجوه الثقافة المصرية الراهنة، وأحد أكبر علماء الاجتماع العرب المعاصرين، حيث ألف الرجل وترجم فى تخصصه بالمعنى الواسع ما يكاد يمثل مكتبة صغيرة، خصوصا فى حقلى الاجتماع الديني، والاجتماع الريفي. الأول ولج فيه إلى مناطق غير مأهولة جعلت منه الأقدر على سبر غور عمليات تشكيل الخطاب الدينى وتحولاته بين الأزمنة المصرية الحديثة، وكذلك تنوعاته بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث يتشكل الوعى الدينى ويؤدى دوره الرمزى فى سياق مطالب نفسية وحاجات روحية متغايرة يفرضها الوعى الطبقى والمكانة الاجتماعية. كما قدم فى كتابه الأثير “صوت الإمام” دراسة ميدانية رائدة أضاءت الكثير من تصورات النظرية. أما الثاني، فيكاد يكون هو مؤسسه العربي، إذ تواكب أعماله العديدة التحولات السسيولوجية فى القرية المصرية، التى ولد ونشأ فى إحداها بمحافظة المنيا فى صعيد مصر، وأدرك بالخبرة المباشرة ما جعل تنظيره أكثر عمقا وموضوعية.
ولعل أفضل ما فى زايد، الذى بلغ ذروة السلم الأكاديمى عميدا لكلية الآداب جامعة القاهرة، ولا يزال يمارس دوره العام بمجلس الشيوخ، هو شخصيته الإنسانية التى تتسم بالبساطة، والتواضع الجم، بل إنه واحد من قلة نادرة ممن عرفتهم يتمتع بسلام نفسى عميق، ولا يرى نفسه فريد عصره الذى تعرض للظلم، ولم ينل حظه من الحياة. فعندما تلقى خبر فوزه قبل أشهر قليلة بجائزة سلطان العويس فى الدراسات الإنسانية، وهى جائزة بالغة القيمة، مشهود لها بالنزاهة، اتصلت به مهنئا فإذا به يبادرنى بالسؤال: هل أنا فعلا أستحقها، فأجبته بتلقائية: بل هى التى استحقتك. وهو ما تكرر تقريبا عند تكليفه بالمهمة الأكبر فى المكتبة العريقة، التى أرجو لها الازدهار تحت قيادته، وإكمال مسيرة النجاح التى بدأها إسماعيل سراج الدين وواصلها مصطفى الفقي.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/204206/4/863820/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%B4%D9%83%D8%B1%D8%A7-%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%89-%D9%88%D8%A3%D9%87%D9%84%D8%A7-%D8%A8%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B2%D8%A7%D9%8A%D8%AF.aspx?fbclid=IwAR1IF4lXMpx8X7OnLd6pXT-v8UBkUOzxblEgCpk6zNV8hn1B88-lN_j6zYc