ظلت تربطنى بالفنان الكبير صلاح طاهر صلات عابرة فى مناسبات مختلفة لسنوات طويلة، كما أن الفارق العمرى بيننا قد جعل مجال العلاقة محدودًا فضلاً عن أنه فنان تشكيلى ضخم، أصدقاؤه يبدأون من مستوى عباس العقاد ولا يصلون إلى أمثالى من أبناء الأجيال الجديدة بالنسبة له إلى أن التقانى ذات مرة بعد ترشيحى سفيرًا لمصر فى النمسا عام 1995، وقال لى أنت ذاهب إلى بلد الموسيقى والفنون التشكيلية فلابد أن أرسم لك «بورتريه» فتحمست لذلك واعتبرتها مجاملة راقية من فنان كبير، وبالفعل كنا نذهب إليه فى مرسمه بالجيزة -أنا وزوجتى- حيث أنهى بعد عدة جلسات «بورتريه» لكل منا، مازالا يزينان حوائط منزلنا بكل الاعتزاز والتقدير فلقد رسمنا صلاح طاهر وتلك ذكرى باقية نتيجة اسمه الشهير ومكانته المرموقة، ولقد كان ينتهز فرصة جلوسنا معه لبضع ساعات فيحكى عن تاريخه والفترات التى عاش فيها والشخصيات التى عرفها، وسألته شخصيًّا عن صلته بالعقاد، واللوحة الشهيرة التى رسمها له تعبيرًا عن الإحباط الذى شعر به المفكر المصرى الكبير بعد قصة حب من طرف واحد للفنانة الراحلة سمراء النيل مديحة يسرى، واستعرض صلاح طاهر أمامنا آراءه فى تاريخ الفن المصرى ورواد الفنون التشكيلية تحديدًا وذكرياته مع الكبار من حكام مصر وعلمائها ومفكريها وفنانيها وأدبائها وشعرائها، وقد لاحظت أن ذلك الفنان الكبير منخرط فى حياة اجتماعية بعيدة عن مجال الفن ويتلقى اتصالات مستمرة من أصدقاء وصديقات يعشقون فنه ويحترمون شخصه فهو يملك حياة ثرية حتى فى تلك السن المتقدمة نسبيًّا فقد كاد يتجاوز الثمانين من عمره فى ذلك الوقت، وحدثنا أيضًا عن حياته العائلية وابنه الأثير المعروف هو الآخر فى مجاله، وقد اكتشفت وقتها أن الفن ابن شرعى للحياة ولا يمكن أن يكون فنانًا ذلك الشخص المعزول عن مجتمعه أو البعيد عن حياة الناس، فالثراء الحقيقى هو ذلك الذى يأتى من خلال الاحتكاك بالطبقات المختلفة من الناس بحيث يلتقط الصور الذهنية من حياة البشر العاديين كل يوم، ولقد لاحظت أن صلاح طاهر يتحدث بعصبية مع بعض أصدقائه وصديقاته الذين تعودوا على ذلك وعرفوه على ما هو عليه وأحبوه بقيمته وقامته فى تاريخ الفن المصرى المعاصر ويهمنى هنا -وبهذه المناسبة- أن أشير إلى الملاحظات التالية:
أولاً: إن الفنان -مهما بلغت قيمته- هو إنسان من الدرجة الأولى وموهبته الفنية هى تعبير عن قيمته الإنسانية فنرى فى الفنانين دائمًا -خصوصًا فى الموسيقى والفن التشكيلى- شخصيات مبهرة تمتلك ثقافة أفقية ورأسية فى وقت واحد، تجعلهم يتميزون عن أقرانهم فى فروع الفن الأخرى، ولقد اقتربت كثيرًا من فنان آخر كبير هو فاروق حسنى، واكتشفت القواسم المشتركة بين الفنانين الكبار رغم اختلاف الشخصيات والظروف التى أحاطت بكل فنان.
ثانيًا: إن الفن لغة عالمية وما عرفت فنانًا مرموقًا إلا وهو متواصل مع العالم الخارجى لذلك لم أُدهش وأنا سفير فى فيينا عندما رأيت طوابير النمساويين أمام معرض فاروق حسنى فى ظل البرد القارس ومع ساعات الصباح الأولى والناس هناك لا يعرفون أنه وزير ولكنهم يدركون أنه فنان تشكيلى كبير ينتمى إلى المدرسة الحديثة فيسعون إلى لوحاته ويتذوقون فنه.
ثالثًا: إن للفنان قيمة كبيرة فى أعين من حوله وأنا شخصيًّا عندما أرى آدم حنين رائد فن النحت المعاصر أكاد أنحنى إجلالاً له وتقديرًا لمكانته فضلاً عن هدوئه ودماثة خلقه، والفنان الأصيل متواضع بطبيعته، بسيط بفطرته، لأن الفن يُعلِّم الناس التجرد والموضوعية، ويزكى فى قلوبهم العاطفة الصادقة، ويسهم فى تكوين النفس الشفافة.
إننى أتذكر اليوم صلاح طاهر بعد سنوات من رحيله وأحتفظ ببعض أعماله الخالدة فى منزلى ولا أنسى ما قاله لى ذات مرة (إننى لا أرسم ملامح الشكل وحده ولكننى أحاول إبراز الشخصية وسماتها بالريشة التى هى أقوى من الكلمة).. رحم الله ذلك الفنان التشكيلى الكبير ورحم الله عصره بما فيه من فكر وأدب وفن.
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 285
تاريخ النشر: 3 يوليو 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%ad-%d8%b7%d8%a7%d9%87%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%88%d8%b1%d8%aa%d8%b1%d9%8a%d9%87/