جيل يلملم أوراقه ويمضى إلى حيث لا يعود الناس، إن فلسفة الكون تفوق قدراتنا على الفهم ورؤيتنا عند التفكير، والمتأمل هذه الحياة لابد أن يهرع إلى حظيرة الإيمان مهما عظم قدره وزاد علمه وامتدت به الأيام، فلقد ودعتُ مؤخرًا اثنين من أقرب أصدقائى، أولهما الدبلوماسى المخضرم الذى عمل سفيرًا لـ«مصر» فى الهند والمغرب وبريطانيا، وأعنى به الراحل «عادل الجزار»، والآخر واحد من ألمع الاقتصاديين المصريين وهو أستاذ جامعى مرموق حرمته ظروف «مصر» من أن يتبوأ موقعًا يستحقه، فهجر البلاد والعباد إلى دولة «الكويت»، ولكنه ظل ملء السمع والبصر وأعنى به أ. د. «عمرو محيى الدين» الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة «القاهرة»، والشقيق الأصغر للمناضل المصرى الكبير «خالد محيى الدين» أطال الله فى عمره، ويهمنى هنا أن أطرح ما يلى حول هاتين الشخصيتين:
أولًا: إن «عادل الجزار» سليل عائلة عريقة من محافظة «المنوفية»، وعندما اجتاز اختبارات الخارجية وعين ملحقًا دبلوماسيًا جرى تجميده لعدة سنوات واستبقاؤه فى الديوان العام بقرار من لجنة تصفية الإقطاع، وانضممت إليه عام 1966 ملحقًا دبلوماسيًا فى إدارة «غرب أوروبا» التى كان يترأسها السفير الراحل «جمال منصور»، وهو من الضباط الأحرار وآباء الدبلوماسية المصرية، وقد خدم سفيرًا ورئيس بعثة فى سبع دول، وكان «عادل الجزار» فى ذلك الوقت شابًا مهذبًا أخرج معه كل يوم من المكتب ونتجه إلى منزله على شاطئ النيل بالقرب من وزارة الخارجية حيث توثقت علاقتنا بشدة ووجدت فيه دماثة الخلق وهدوء الأعصاب ورقى الشخصية، إلى أن أفرجت عنه الوزارة وجرى نقله إلى سفارتنا فى «أوتاوا» بـ«كندا»، وأتذكر أنه مرّ علىّ وقتها فى سفارتنا بـ«لندن» واستضفته فى منزلى ليلتين لم ننم طوالهما من الأحاديث والتعليقات، وعندما كان يتجه معى إلى مكتبى فى السفارة قابله السفير «محمود سمير أحمد»، وكان الرجل الثانى فى السفارة المصرية، فقال له: إلى أين أنت منقول يا «عادل»؟ فقال له: إلى «كندا»، فرد عليه تلقائيًا: لقد أخذت (صدر الديك)! ومضينا أنا و«عادل الجزار» نتندر بهذه العبارة، إذ كيف يستكثر البعض على شاب دبلوماسى أن يذهب إلى «كندا» بعد ثمانى سنوات من الاحتجاز فى الديوان العام لأسباب تتصل بعائلته ومكانتها فى «ريف مصر» ولا تتصل أبدًا بكفاءته وعمله الدبلوماسى فى وزارة الخارجية! وقد أدرك الجميع دائمًا أن «عادل الجزار» كان هو والسيدة قرينته من أكثر الأسر الدبلوماسية كرمًا وحسن ضيافة.
ثانيًا: لا أنسى للدكتور «عمرو محيى الدين» موقفه المشرف معى بعد حصولى على الدكتوراه وعودتى إلى «مصر» عام 1977، حيث أصر فى استماتة وحماسة على تعيينى مدرسًا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وسعى مع الراحل د. «محمود خيرى عيسى»- عميد الكلية حينذاك- للحصول على الدرجة من الجامعة، ولكنى خذلتهما، فبعد أن تم كل شىء تقريبًا جرت ترقيتى إلى درجة سكرتير أول فآثرت البقاء فى الخارجية، خصوصًا أن أستاذى الدكتور «بطرس غالى» قال لى أيامها: إنك فى الخارجية تستطيع أن تواصل العملين الدبلوماسى والأكاديمى، أما فى الجامعة فإنك تقف على أرضية أكاديمية فقط، وأنا أنصحك بألا تترك الخارجية، خصوصًا أننى جئتها- يقصد ذاته- وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية منذ أسابيع فقط، وأريد أن يكون حولى فى الخارجية تلاميذى السابقون فى الجامعة، بل تفضل وعرض علىّ- من خلال أستاذى د. «عبدالملك عودة»- أن أكون مديرًا لمكتبه، ولكننى قلت له إن مدير مكتب الوزير يكون سفيرًا وليس مجرد سكرتير أول، وتعاونت معه أنا وزميلى د. «محمود مرتضى» فى إعداد «الكتب البيضاء» الشهيرة التى بدأناها معه فى ذلك العام، وقد ظلت علاقتى بالدكتور «عمرو محيى الدين» علاقة وثيقة، أحترم علمه الغزير وثقافته الواسعة ورؤيته البعيدة وذكاءه الحاد، فضلًا عن عزوفه عن المناصب عندما اكتشف أنها تبتعد عنه، فهجرها بعيدًا وآثر العمل الأكاديمى من خلال أنشطة الصناديق العربية بعيدًا عن صراعات «القاهرة» وشائعات أهلها التى كانت ترميه بالتهم اليسارية وتحجب عنه ما يستحق. رحم الله الفارسين الراحلين، وعوض وطنهما وجيلهما خيرًا.
مصطفى الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 4938
تاريخ النشر: 19 ديسمبر 2017
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1234062