هاتفنى منذ أيام قليلة صديق عمر وزميل دراسة فى المرحلتين الإعدادية والثانوية، وهو يشغل حاليًا منصبًا وزاريًا وله إسهامات فى تاريخه العسكرى والسياسى تحت مظلة الوطنية المصرية وجيشها الباسل، وله دور مرموق فى أعقاب ثورة 25 يناير، وقال لى ذلك الصديق: ألا تتذكر بيان 30 مارس كمحاولة إصلاحية فى وقتها؟، لقد مضى على صدوره نصف قرن بالتمام، فمنذ خمسين عامًا وفى أعقاب نكسة 1967 ومحاكمة بعض القادة العسكريين، وفى مقدمتهم قيادة سلاح الطيران، خرجت مظاهرات الطلاب الغاضبة تحتج على الأحكام الصادرة بحقهم، وأنها لا تتناسب مع حجم النكسة وفداحة ما جرى، ورأى «عبد الناصر» أن عليه أن يجدد العهد مع الشعب المصرى بإجراء نوع من المراجعة السياسية، منتقدًا بعض الأوضاع من خلال الحديث عن المسارات الإيجابية التى يجب أن تتجه إليها «مصر»، وذلك يتمشى مع ما تم الكشف عنه أخيرًا فى محاضر لجلسات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى فى أعقاب النكسة، والتى قام فيها «عبد الناصر» بعملية نقد ذاتى هائلة، بل إننى عندما قرأتها- مثل الكثيرين- شعرنا بالدهشة أن هذا الكلام قد قيل من رئيس الدولة المصرية فى أعقاب هزيمة يونيو 1967، فقد كشف الرئيس الراحل بوضوح عن الأخطاء التى وقعت فيها مسيرة الثورة المصرية وتحدث بلا مواربة عن غياب الديمقراطية وتراجع الحريات والانشغال فى معارك جانبية صرفت الجهود عن الطريق الطبيعى للدولة، وقد قام الرئيس المصرى فى تلك الجلسات التاريخية بعملية مراجعة شاملة استمع فيها إلى ما كنا لا نتصور إمكانية الاستماع إليه، بل إنه سبق زملاءه من أعضاء اللجنة فى عملية جلد الذات وإلقاء الضوء على سلبيات الفترة التى مضت مع إدانته الكاملة لبعض السياسات التى كان هو شريكًا فيها، وفى ظنى أن تلك الوثائق هى من أهم ما يمكن أن يعتز به كل مدافع عن «عبد الناصر»، إذ إن الرجل قد وضع يده بوضوح على الحجم الحقيقى للأخطاء والأسباب التى أدت إلى النكسة وتداعياتها القاسية على أرض الوطن حتى جاء بيان 30 مارس 1968 لكى يكون تتويجًا حقيقيًا لعملية مراجعة شاملة قام بها النظام الناصرى لكى يكشف النقاب بوضوح عن كثير من الملابسات التى أحاطت بما مضى والظروف التى صاحبت ما جرى حتى تمكن أن يكون فى النهاية تعبيرًا أمينًا عن تحمله المسؤولية الكاملة لما تعرض له الجيش والشعب من انتكاسة سمحت لـ«إسرائيل» أن تمرح فى الأرض العربية وأن تعربد فى الأراضى المحتلة حتى الآن، ويهمنى هنا أن أطرح الملاحظتين التاليتين:
أولاً: ليس صحيحًا أن الزعيم يقاس بنهايته وحدها، فيجب أن نتذكر هنا أن «نابليون» قد مات محبوسًا ومسمومًا فى جزيرة «سانت هيلينا»، وأن «محمد على»- بانى مصر الحديثة- قد قضى سنوات عمره الأخيرة منفردًا فى حجرة بقصره يعانى داء الخرف ويشهد وفاة ابنه «إبراهيم» فى حياته حتى آل الحكم إلى واحد من أضعف حكام الأسرة العلوية، وأعنى به الخديو «عباس الأول» الذى قتله الخدم والحراس فى «قصر بنها»، كما أن «أحمد عرابى» قد مات والبعض يبصق عليه فى المقاهى قائلين هذا سبب الاحتلال، كما هجاه «أمير الشعراء» بأبيات شهيرة استخفافًا به وإقلالًا من شأنه، وذلك رغم أن «عرابى» كان هو بحق الفلاح المصرى الثائر أمام جبروت الخديو «توفيق»، وخيانته رافضًا الوجود الأجنبى فى الجيش المصرى.
ثانيًا: إننى أظن أن أفضل سنوات حكم «عبد الناصر» هى الثلاث الأخيرة الواقعة بين حدوث النكسة وبين رحيله، فقد قام بعملية تصحيح للأخطاء ومداواة للجراح، ومضى بنفسه متنقلًا بين القواعد العسكرية يجمع الشمل ويعيد شتات جيشه بعد هزيمة مريرة حتى مضى إلى رحاب ربه واقفًا كالنخيل ولم يغير مبادئه أو يتلون وفقًا للظروف الجديدة.
ولا نكاد نجد له تجاوزًا فى تلك الفترة إلا مذبحة القضاء بما لها وما عليها، ويبقى «عبد الناصر» فى ضمير أمته روحًا مضيئة وفى تاريخها علامة فارقة.
إن بيان 30 مارس يذكرنا بمبادئ وأهداف ووسائل لا خلاف عليها وهو فى ظنى وثيقة هامة للغاية تجسد فكر «عبد الناصر» ونظامه فى أعقاب النكسة المروعة، وها نحن بعد خمسين سنة من صدوره لا نزال نحتفى به ونعتبره وثيقة سياسية اعترفت بالحاضر وتطلعت إلى المستقبل.
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 5043
تاريخ النشر: 3 أبريل 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1278209