واصلت الكتابة فى السنوات الأخيرة حول مسألةٍ أرى لها أهمية بالنسبة للشخصية المصرية وتاريخها الوسطى وانفتاحها المعهود على كل الثقافات والحضارات والديانات، وطالبت عدة مرات بفتح الأبواب للجاليات الأجنبية التى عاشت فى مصر فى القرنين التاسع عشر والعشرين للعودة لمن يرغب هو أو ذريته لمواصلة العمل فى مصر بأوضاعها الجديدة وظروفها التى تغيرت كثيرًا عما كان عليه آباؤهم وأجدادهم فى مدينة الإسكندرية- على سبيل المثال- ذلك أن الحنين إلى ماضى الآباء والأجداد سوف يشدهم، ولقد رأيت بعينىّ على مسار خدمتى الدبلوماسية الكثيرين من أبناء هذه الجاليات يبكون وهم يتحدثون عن مصر حبًا وشوقًا بل ولاءً، هل هناك من يشكك فى محبة اليونان والطليان والأرمن وغيرهم لمصر وشعبها وللكنانة وأرضها حتى أصبح مزاجهم مصريًا، ولا يزال الكثيرون منهم يحتفظون باللسان العربى فى لغتهم حتى اليوم، أما لماذا نطالب بذلك؟ فالسبب بسيط، وهو أن كيانات التعددية وتداخل الأعراق والثقافات هما أمران يؤديان بالضرورة إلى ارتقاء المجتمعات ونهوض الشعوب، ولقد عرفت مصر الحديثة فى عصورها المزدهرة وأزمنتها الراقية دورًا إيجابيًا ومؤثرًا لتلك الجاليات..
ومازالت مدينة الإسكندرية، تلك المدينة العالمية بالمفهوم الكامل للكلمة، تباهى بذلك الوجود الذى عرفته شوارعها وميادينها ومطاعمها ومقاهيها ومحالها يوم كنت ترى أن الحلاق إيطالى، وأن البقال يونانى، وأن صاحب المطبعة أرمنىّ. لقد كانت مصر درة الشرق وضياء العالمين..
فهل يتاح لها أن تستعيد تلك الفترة باستقبال ما يمكن اعتبارهم من أبنائها الذين يمكن أن يسهموا بخبراتهم ومهاراتهم فى تشييد مستقبل أفضل لمصر التى تبنى نفسها وتجتث الإرهاب من أرضها ليعود إليها وجهها المشرق وهويتها الحقيقية وشخصيتها المعتدلة وانفتاحها التاريخى الذى عرفته الدنيا واعترفت به الأمم؟!، وأتذكر أننى تلقيت دعوة مصرية بوصفى مديرًا لمكتبة الإسكندرية لكى أحضر الاحتفال الذى تقيمه الدولة (هيلينية الأصل) البحر متوسطية المزاج القريبة من مصر والمصريين بمرور أربعة وعشرين قرنًا على إنشاء مدينة الإسكندرية، ولقد قال رئيس جمهورية اليونان لى مباشرة إن الإسكندرية هى أهم مدينة فى العالم بالنسبة للشعب اليونانى، ثم أضاف فى خطبته بعد ذلك تعبيرات قوية وحاسمة فى حب مصر وشعبها ومدنها وقراها أيضًا، بل كرر ذلك أثناء زيارته مكتبة الإسكندرية منذ يومين، ولذلك وجدت دائمًا أنه يتعين علينا استغلال هذا الزخم وفترة التقارب البحر متوسطى بين مصر وكل من اليونان وقبرص فى السنوات الأخيرة، لكى نصنع منظومة تعيد إلينا فترة مضيئة من حياتنا، لذلك فإننى عندما تلقيت اتصالًا هاتفيًا من تلميذتى الدبلوماسية الرائعة نبيلة مكرم عبدالشهيد، وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج، تبشرنى بأن الرئيس السيسى قرر تبنى مبادرة «العودة إلى الجذور»، حيث تحتفل الإسكندرية بذلك فى حضور الرئيسين اليونانى والقبرصى حتى تتحول الإسكندرية من جديد إلى رابطة بين الأشقاء والأصدقاء فى حوض المتوسط بحيرة الحضارات ومركز الثقل التاريخى منذ القرون السحيقة، لا يمكن أن يتصور أحد سعادتى وسعادة القادمين إلينا وهم يطوفون بأرجاء المدينة ويتفقدون مكتبتها العريقة وقصورها الرائعة وأحياءها القديمة، تشدهم لذكريات وتدفعهم مشاعر حقيقية للإسهام فى التجربة التنموية المصرية المعاصرة، لذلك فإننى أعتبر أن مبادرة العودة إلى الجذور هى واحدة من أهم الإسهامات الإيجابية لهذه الفترة من تاريخنا، وأرحب ومعى كل مصرى صادق بالأشقاء والأصدقاء العائدين إلى حضن الوطن الثانى ليكونوا معنا شركاء فى البناء والإعمار والتنمية وتطوير القوى الناعمة لبلد لا يملك سواه ما يملكه، ولم تعرف الدنيا مثيلًا له فى هذا السياق.. تحية للقادمين والقادمات مع أمل فى أن يشهد الغد استعادة لروح لا تنتهى وإشراقة لشمس لا تغيب.
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 5071
تاريخ النشر: 2 مايو 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1286862