نعم.. هى أحزان الأجداد، لو عادوا إلى الحياة وشاهدوا العبث الذى مارسناه عبر السنين تجاه تراثنا العريق وآثارنا العظيمة، لو تجول بعضهم فى شوارع القاهرة الفاطمية أو المملوكية أو حتى الخديوية فسوف يكتشفون بسهولة أننا نفرط فيما نملك ولا نقدر قيمة ما آل إلينا مما صنعه أجدادنا العظام، لقد رأيت آثارًا فرعونية وقبطية وإسلامية غارقة فى المياه الجوفية بل وأحيانًا طفح الصرف الصحى، فضلًا عن وجود عشوائيات حولها على نحو يدل على أننا لا نحترم تراثنا ونفرط فيما لدينا، وقد رأيت أيضًا فى دول أخرى متقدمة كيف أنهم لو وجدوا بعض الحجارة القديمة فى موقع معين فإنه يجرى فورًا إحاطتها بسور عازل وتغطيتها بزجاج حديدى وتحويلها إلى مزار سياحى رغم فقر المعروض وقلة المتاح، ولكن الأمر عندنا يختلف إذ إنه من فرط ما لدينا من آثار أصبحنا لا نهتم بها ونراها شيئًا طبيعيًا لا يستحق الرعاية والاهتمام، وكلما تجولت فى أنحاء البلاد اكتشفت ما يدعو إلى الأسف والحزن معًا بل ويحتاج إلى وقفة تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وسأضرب بعض الأمثلة:
أولًا- كلما مررت بالمنطقة الخلفية لـ«ميدان التحرير» وجدت قصرًا هائلًا بأعمدة لا نظير لها- وهو لأحد أمراء أسرة «محمد على»- ولكن الإهمال ضربه من حوله فهو محاط بمحلات إصلاح السيارات وبائعى الفاكهة بعد أن جرى استخدامه لسنوات كمدرسة ثم زحف عليه الإهمال على نحو محزن.
ثانيًا- كلما اتجهت إلى منطقة «السيدة زينب» لزيارة «بيت السنارى»- أحد المقرات الثقافية لـ«مكتبة الإسكندرية»- رأيت على امتداد الشارع أبنية عريقة وأسبلة رائعة ولكنها لا تكاد تظهر من فرط ما أحاط بها من باعة جائلين وتجار للملابس المستخدمة فضلًا عن كمية لا بأس بها من القمامة فأشعر بالأسى والخزى ولا أجد لما أراه مبررًا إلا القول بأن الكثير يؤدى إلى البطر والوفرة تدعو إلى الإهمال وأدعو الله فى صمت أن أرى بلادى ذات يوم وقد تغيرت لأنها فى الحقيقة (دولة متحف) فيها من الآثار ما لا يتصوره أحد إذ إنه تحت كل حجر أثر وفى كل بناء قديم سر عظيم.
ثالثًا- ساقتنى الظروف منذ أيام فى يوم عطلة وأنا فى مدينة «الإسكندرية» فذهبت مع وفد من زملائى من «مكتبة الإسكندرية» لزيارة «دير مارمينا» بدعوة كريمة من أشقائنا فى الوطن، وبرغم الجهود الهائلة التى قام بها إخوتنا الأقباط فى إنعاش المنطقة وبناء دير ضخم بكنائس رائعة وتوفير استعدادات مطلوبة للرهبان فى ذلك الدير العريق الذى بناه البابا الزاهد «كيرلس السادس» ولكن المؤسف أنه على بعد كيلو مترات قليلة نجد مقبرة الشهيد «مارمينا»، وهو أول الشهداء من المصريين فى التاريخ القبطى نجده مطمورًا فى المياه الجوفية رغم أن ذلك الموقع كان هو الموقع الخامس المسجل لدى «اليونسكو» فى ترتيب المواقع المصرية الأثرية ولكن الإهمال الذى حاق بالمنطقة فضلًا عن بعض المضايقات البيروقراطية قد حرمتنا من مزار سياحى دينى لا نظير له، وذلك يعنى ببساطة أننا نحارب أنفسنا ولا نتوقف عند حرب الطبيعة وعوامل التعرية وعوادى الزمن، فمتى نلتفت إلى هذه الحقائق لكى نضع «مصر» ومواقعها الأثرية الدينية والتاريخية فى مكانها الصحيح؟!
إننى أعلم الجهد الجبار الذى تقوم به وزارة الآثار وقطاعاتها المختلفة، ولكن على ما يبدو أن المشكلة أكبر وأخطر من ذلك فالأجانب يعرفون قيمة آثارنا ونحن ننكر ذلك على أنفسنا، وهم يهتمون بها بعدما نقلوا بعضها إلى متاحفهم اعترافًا بفضل الحضارات التى تعاقبت على أرض «مصر» الطيبة، فياليتنا نفيق مدركين أن ما نملكه من تراث هو أبقى لنا وهو أعظم رصيد لدينا وأغلى سلعة نصدرها للقادمين إلى بلادنا.. ليتنا نفيق!.
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 5085
تاريخ النشر: 16 مايو 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1291137