ازدحمت الساحة الثقافية فى الشهور الأخيرة بعدد كبير من كتب السير الذاتية اتخذت أشكالًا مختلفة وألوانًا متعددة بعضها مضى باختيار لقطات من الحياة الشخصية والوظيفية، والبعض الآخر بدا بالسرد التاريخى للأحداث منتقلًا من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة إلى الحياة العملية، وفى كل الأحوال فإن هذا الاتجاه يعكس شعورًا بالمسؤولية تجاه أصحابه وأنهم ملتزمون بأن يقدموا للأجيال الجديدة ما يمكن أن يكون زادًا فى رحلة الحياة وعونًا فى مواجهة الأحداث. ولقد استأثر أدب السير بمكانة خاصة فى الآداب العالمية والثقافات المختلفة لأنه ينطوى على أمرين فى وقت واحد، الأول هو متعة متابعة مسيرة شخص وعصارة حياته وخبرة أيامه بما فى ذلك من إثارة وتشويق خصوصًا إذا كان صاحب السيرة معروفًا للناس فإذا بهم يكتشفون جديدًا فى شخصيته أو يعرفون مجهولًا عنه، أما المتعة الثانية فهى الاستفادة من تجارب صاحب السيرة والتعلم من أخطائه والاتجاه نحو معرفة أسباب نجاحاته لذلك فإن كتاب السيرة يجب أن يتحلوا تمامًا بالصدق والابتعاد عن المبالغة وتصوير الأمور حاليًا على أنهم كانوا أبطالًا بالأمس وهى أمور شهدناها كثيرًا فكانت بعض كتب السيرة الذاتية استعراضا لبطولات لا وجود لها أو هى تصفية لحسابات لا مبرر لوجودها، لذلك فإننى ممن يظنون أن كتب السيرة يجب أن تكون تعليمية أيضًا بحيث يتيح كاتب السيرة معلومات عن كل أمر جديد يطرحه أو اسم غير معروف يقدمه لأن ذلك يؤدى فى النهاية إلى أن تتحول كتب السيرة الذاتية إلى وثائق علمية وليست فقط دراسات أدبية. أقول ذلك وقد رأيت شخصيًا أن أكتب سيرة سردية مباشرة لحياتى دون تدخل كبير منى بحيث أترك لمسيرة الحياة وتتابع الأحداث أن تمضى مع سطور ما أكتب فى موضوعية وحياد دون إضافات لا مبرر لها أو رتوش أنا فى غنى عنها، وقد يقول القارئ: إنك أصدرت ثلاثية لقرابة ثلاثمائة شخصية هامة عرفتها مباشرة فى حياتك وتعاملت معها فى المواقع المختلفة التى شغلتها، وهذا صحيح وهى تبقى جزءًا من تاريخى الشخصى بل زدت على ذلك بإصدار كتاب عن «مؤسسة الأهرام» بعنوان «لقطات من العمر» ضمنته المحطات البارزة فى حياتى وشهادة الآخرين حولها ولكن ذلك كله لا يكفى فالسرد الأمين يبقى هو جوهر كتابة السيرة ومصدر قيمتها الباقية والتاريخ المصرى حافل بالحكائين، ولازلت أذكر تعليق الكاتبة الصحفية ورائدة الفن التشكيلى «سناء البيسى» عندما ناقشت الثلاثية فى ليلة دعت إليها دار نشرها «المصرية اللبنانية»، فقد وجهت الكاتبة الكبيرة انتقادًا بأننى لم أعط لكاتب عظيم بحجم «خيرى شلبى» ما يستحقه من اهتمام وقد كانت ملاحظتها صحيحة لأننى لم أعرفه إلا فى أواخر سنوات عمره فجاءت شهادتى فيه مركزة على اللقاءات محصورة فيما قرأت له ولم يكن كثيرًا ولكننى شعرت أننى أمام روائى ضخم لا يقل كثيرًا عن صاحب «نوبل» «نجيب محفوظ»،
لهذه الأسباب مجتمعة رأيت أن مهمتى الحالية هى أن أستجمع خيوط العمر بترتيب منطقى وأمانة مطلقة وسوف تسبق أخطائى نجاحاتى لأننى أريد أن أقدم لأبنائنا وبناتنا قصصًا حقيقية مجردة تتسم بالحياد والموضوعية وتضع أمامهم ما يعين على تجنب الأخطاء والاتجاه نحو المسارات الصحيحة لحياة تبدو الآن أكثر يسرًا وأشد تعقيدًا فى ذات الوقت، إنها حياة تحتاج إلى إعمال (فقه الأولويات) لدى كل شاب ليختار طريقه برؤية واضحة وفكر سليم، وسوف أخلط فى تجربتى بين كل ما عملت فيه من أنشطة دبلوماسية، وأكاديمية، وإعلامية، وبرلمانية فضلًا عن العمل السياسى العام الذى انزلقت إليه فى سن مبكرة عندما انخرطت فى مسيرة منظمة الشباب فى العصر الناصرى، وسوف أكون منصفًا للآخرين وربما قاسيًا على النفس حتى تبدو الصورة فى نهايتها صادقة تعكس الحقيقة.. ولا شىء غير الحقيقة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 5092
تاريخ النشر: 23 مايو 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1293057