تمتَّع الإمام محمد متولى الشعراوى بشعبيَّةٍ كاسحةٍ فى الشَّارع المصرى والعربى والإسلامى، فقد امتلك الرَّجل قُدرةً فائقةً على توليد المعانى من خلال سيطرته الكاملة على اللغة العربية ومُفرداتها، خصوصًا أنه خرِّيج كلية اللغة العربية فى جامعة الأزهر، وكان له مُريدون فى كل مكان، بل إننى أتذكَّر أن الفنَّان العالمى «عمر الشريف» كان واحدًا من مُريديه وعُشَّاق الاستماع إليه، بل وكان يُقلِّد صوته وحركاته فى جلساته معنا.
ربطتنى بالإمام الرَّاحل صلةٌ طيِّبة، وكُنتُ همزةَ وصلٍ بينه وبين مؤسسة الرِّئاسة فى كثير من المُناسبات، وكان الذى عرَّفنى به فى منتصف ثمانينات القرن الماضى هو العالم الأزهرى الراحل «محمود عاشور»، وكيل الأزهر الأسبق، وقد بلغت صلتى بالشيخ الشعراوى أن أقام حفلاً لتكريمىعندما تركتُ مؤسسة الرئاسة عام 1992، وقد أقام الحفل فى منزل صديقه الراحل الأستاذ «أحمد عبدالله طعيمة» وزير الأوقاف الأسبق بحى الزمالك فى القاهرة، ودعا إليه لفيفًا من الأصدقاء المصريين والعرب، ومن بينهم وزراء ومُحافظون من مُريدى الشيخ ورُوَّاد جلساته، والقصَّة التى أحكيها الآن تتَّصل بأزمة عابرة تعرَّض لها الشيخ فى مطار القاهرة الدولى فى مُنتصف تسعينات القرن الماضى، حيث كُنتُ فى المطار مُسافرًا فى مهمة برلمانية وأجلس فى صالة الشَّرف، فسمعتُ ضوضاء وصياحًا، وإذا بالشيخ يدلُف من باب القاعة ثائرًا وهو يقول: إن هذه القاعة ليست لنا، ولكنَّها للرَّاقصات والفنَّانات وأصحاب النُّفوذ! فاستقصيتُ الأمر من مُدير القاعة، فقال لى إن الشيخ كان معه عدد كبير من المُودِّعين يزيد على أربعين شخصًا، ولكنَّ الأسماء المُبلَّغة للقاعة تتضمَّن ثلاثة مُودِّعين فقط كما جاء فى المُذكِّرة الواردة إليهم من وزارة الأوقاف باعتبار الشيخ وزيرًا أسبقَ لها، ولذلك فإن الشيخ غاضب لأن بقيَّة مُريديه ومُودِّعيه لم يدخلوا القاعة الصَّغيرة التى لا تحتمل هذا العدد، خصوصًا أن الشيخ ذاهبٌ إلى «المملكة العربية السعودية» فى زيارة لا تزيد على ثلاثة أيام بدعوة من الشيخ «حسن عنانى» بمُناسبة زفاف ابنه، وهو صديق عزيز على الشيخ، كما أنه كان زميلاً لى أيضًا فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة كطالب سعودى فى ستينات القرن الماضى، وعندما أدركتُ الموقف اتَّجهت إلى الشيخ وصافحتُه وقبَّلتُه فانفرجت أساريرُه عندما رآنى، وبدأتُ بدورى أشرح له ما جرى، وأنه لا سوءَ نيَّة فيما حدث، ولكنَّها التَّرتيبات التى جرت وفقًا لمُذكِّرة فتح القاعة، فهدأ روعه، وكان اللواء «عبدالعزيز بدر» مُدير مطار القاهرة الدولى حينذاك قد وصل فأفهمتُ الشيخ أن هذا الرجل الصالح هو تلميذ مُباشر للرئيس الأسبق مبارك تخرَّج بعده بدُفعتين فقط، كما أن زوجته تنتمى لبيت (مجددى) الأفغانى، وهو بيت إسلامى كبير فى أواسط آسيا، حيث كان والدها سفيرًا لبلاده فى القاهرة فى العصر الملكى، فأحسن الشيخ استقبالَ مدير المطار، وجلس إليه هادئًا مُطمئنًا، وتمكَّن اللواء «بدر» وأنا أن نُغيِّر من مزاجه الذى تعكَّر، وأن نبدأ حديثًا لطيفًا فى انتظار طائرته لبدء رحلته المُقرَّرة، وفى اليوم التَّالى نشرت الصُّحُف خبرًا يقول إن «الفقى» نجح فى حل أزمة للشيخ الشعراوى فى مطار القاهرة شارحين المُلابسات التى أدَّت إليها؛ لأن مُريدى الشيخ كانوا فى غضب شديد مما جرى، فكان توضيح الأمر واجبًا وضرورةً، ومازلتُ أذكر للشيخ لقطات لا أنساها، خصوصًا عندما عاد الرئيس الأسبق «مبارك» بعد مُحاولة اغتياله فى أديس أبابا، فوقف الشيخ الشعراوى فى شجاعةٍ وجرأةٍ ليقول له: «إذا كُنَّا قدرَك أعانَكَ الله علينا، وإذا كُنتَ قدرَنا أعانَنا الله عليكَ»، وكما قُلتُ من قبل فإن الرئيس الأسبق «مبارك» قد ذكر أمامى أنه طلب من الدكتور «فؤاد محيى الدين» رئيس الوزراء الرَّاحل عرض مشيخة الأزهر على الشيخ «الشعراوى» بعد وفاة الشيخ «عبدالرحمن بيصار»، ولكنَّ الشيخ اعتذر، ولقد تحقَّقتُ من القصَّة بعد ذلك من خلال الشيخ «محمود عاشور» الذى أفاد بأن المنصب لم يُعرض بشكلٍ مُباشرٍ على الإمام الرَّاحل، وفى ظنِّى أن شعبية الشيخ الشعراوى كان يُمكن أن تُضيف إلى مكانة شيخ الأزهر رصيدًا كبيرًا يُساعد فى حل المشكلات والتئام الجراح ذات الطَّابع الدِّينى أو الطَّائفى، بل وتُسهم فى تعزيز مُواجهة الدَّولة للإرهاب بشكلٍ أكثر حسمًا.
هذه نادرةٌ شهدتُها بعينى فى مطار القاهرة ذات يومٍ وأنا مُسافر أنتظر طائرتى، بينما الشيخ فى طريقه إلى «السعودية» لحضور مُناسبة اجتماعيَّة وزيارة بيت الله الحرام وأداء شعائر العُمرة.. رحمه الله فى مثواه.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 289
تاريخ النشر: 31 يوليو 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%88%d9%89-%d9%81%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b7%d8%a7%d8%b1/