أشعر دائمًا بأن ما نتحدث عنه باسم إنصاف التاريخ هو حديث يحتاج إلى مراجعة، فما أكثر من يقفون فى الميادين عبر العصور وهم لا يستحقون ذلك، وأيضًا ما أكثر من يعيشون فى أزقة التاريخ وهم الأجدر والأحق بأن تكون لهم الصدارة!، وعندما كتب الفيلسوف المصرى «د. فؤاد زكريا» مقاله الشهير «دهاء التاريخ»، فإنه كان يعبر عن التلاعب فى نقل الروايات والأحداث وفقًا للأهواء والمزاج المعاصر لتسجيل الوقائع وصياغة الرؤية المتعمدة من جانب أصحاب المصلحة، ولقد عبرت فى كثير من كتاباتى عن (المظاليم) فى تاريخنا الوطنى، كما تجاسرت أيضًا وذكرت بعضًا ممن حصلوا على أكثر مما يستحقون!. فالرواية التاريخية تتحول بمنطق التكرار إلى ما يشبه الأسطورة التى تكررها الأجيال دون وعى وتتخذ منها الأمم مواقف تجاه أبنائها دون تمحيص كبير أو تدقيق مطلوب، ولذلك كتب «حبيب جاماتى» كتابه الشهير «تاريخ ما أهمله التاريخ» لكى يتفاعل مع ما نقوله الآن، مؤكدًا أنه ليس كل التاريخ صحيحًا ولا دقيقًا، فرغم أننى أختلف مع المفكر المصرى الدكتور «يوسف زيدان» فيما توصل إليه من نتائج إلا أننى أدعمه بشدة فى ضرورة مراجعة تاريخ الشخصيات الكبرى فى العصور المختلفة، وأنا لا أتردد الآن فى أن أقول إن «أحمد عرابى» حصل على أقل مما يستحق، وأن «مصطفى كامل» نال أكثر مما يستحق، وليس فى هذا أو ذاك تشكيكًا فى قيمة كل منهما أو جورًا على الحقائق التاريخية.
أعود الآن إلى بطل وطنى أحسبنى من أكثر الناس معرفة بقيمته، فلقد هبطت «لندن» فى خريف عام ١٩٧١ نائبًا للقنصل فى العاصمة البريطانية ونزلت أنا وزوجتى فى فندق (نيرا) بمنطقة (كوينز واى) واكتشفت أن الثائر المصرى الكبير «يوسف صديق»، الذى يخضع للعلاج تحت إشراف القنصلية يقيم معى فى نفس الفندق، الذى تربطه بمسؤول العلاقات العامة فى القنصلية صلات طيبة وتسهيلات للمصريين القادمين، سواء أكانوا دبلوماسيين أو زوارًا أو مرضى، وكنت أجلس إلى القائممقام «يوسف صديق» كل مساء، وأتمشى معه فى شوارع المنطقة، ونجلس فى محالها، ويفتح الرجل خزينة ذكرياته، وقد حكى لى عن النزيف الدموى الذى تعرض له أثناء أحداث ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وكيف أُعطى حقنة واحدة أوقفت النزيف تمامًا والمتاعب الصحية إضافة إلى معاناة التهميش التى شعر بها فى السنوات التالية، وكان يتجنب الإساءة إلى «عبدالناصر»، ويؤكد امتنانه لـ«السادات» الذى يحاول رد الاعتبار إليه بدءًا من قرار علاجه فى الخارج على نفقة الدولة المصرية اعترافًا بفضل ضابط شجاع تحرك بقواته قبل الموعد فأنقذ الثورة ورجالها باعتراف الجميع، ثم روى لى «يوسف صديق» طرفًا من انتماءاته السياسية وانخراطه فى سلك اليسار المصرى وانحيازه للطبقات الكادحة وإيمانه المطلق بالعدالة الاجتماعية، وكان الرجل هادئًا ودودًا ووقورًا ومتعاليًا على الصغائر، مؤمنًا إيمانًا عميقًا بوطنه، مترفعًا عن مشاعر الغيظ أو الحقد أو الكراهية، بل كان يعطى كل ذى حق حقه فى موضوعية بهرتنى إلى حد كبير، ولقد مكث الرجل معى عدة أسابيع ألتقيه فى مبنى القنصلية العامة وفى الفندق أيضًا والحديث متصل وصندوق الذكريات لديه مفتوح على مصراعيه، ورغم بعض المرارة التى كنت أشعر بها أحيانًا من حديثه، إلا أنها كانت مرارة إيجابية لا تسىء لأحد، ولكنها تتعلق بظروف الوطن وملابسات الثورة، وظللت أحتفظ بهذه الذكريات إلى أن استيقظت مرتين: الأولى عندما تزوج أحد أصدقائى من زملاء الدراسة وهو الكاتب الصحفى «عبدالقادر شهيب» بابنة ذلك المناضل الكبير، والمرة الثانية عندما أيقظ الرئيس «عبدالفتاح السيسى» مشاعر الوطن كله تعاطفًا مع هذا الضابط الباسل والمقاتل الشجاع والثائر العظيم.
د. مصطفى الفقى;
جريدة المصري اليوم العدد 5162
تاريخ النشر: 1 أغسطس 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1311838