الأخبارُ قسمان؛ أخبار هامة، وأخبار عاجلة، ومع ذلك فقد يكون الخبر أحيانًا هامًّا وعاجلاً فى الوقت ذاته، ولكنَّ هناك طائفةً من الأخبار التى تبدو شديدة الأهمية، ولكنها ليست شديدة العجلة؛ إذ يستطيع المرءُ الانتظار فى عرضها مُكتفيًا بالتَّقليب فى أفكارها ومُحاولة فهم أبعادها، ولكنَّ هناك طائفةً أخرى من الأنباء ذات تأثير على المناخ العام فى اتِّخاذ القرار السياسى نتيجة تأثيرها المُباشر فى مُجريات الأمور، وقد تعلَّمتُ من عملى فى مؤسسة سيادية كُبرى إلى جانب صانع القرار أن مسئوليتى تتحدَّد أحيانًا فى التَّفرقة بين الأمر العاجل والأمر الهام فقط، بحيث أُعطى أولوية للأمور العاجلة التى تحتاج إلى بتٍّ سريع وقرار لا يحتمل التأخير، بينما أُشير فقط إلى الأمور الهامَّة وأطلب وقتًا مُناسبًا عند ولىِّ الأمر حتى يتَّخذ فيها ما يراه وفقًا لمُعطياتٍ كاملةٍ وعرضٍ أمينٍ للحقائق من كافة الأطراف، واضعًا مُتَّخذَ القرار فى الظروف الدقيقة التى تُحيط بالأمر الهام دون تدخُّل منِّى أو إضافة أو حذف،لأن مثل هذه الأمور تتعلَّق بها مصائر البشر، بل ومُستقبل الدولة أحيانًا، أما عرض الأخبار العاجلة فهو لا يحتمل التأخير، بل يقتضى العجلة؛ لأن قرارًا سريعًا يتناسب مع سُرعة الموقف يُصبح أمرًا ضروريًّا لا يحتمل الإرجاء؛ إذ يتعلَّق بحادث وقع آنيًا، أو تصريح جارح لمصادر مُعادية يحتاج إلى الرَّد فى الحال، أو حادث مأساوى كعمل إرهابى، أو حريق كبير، أو مصرع شخصية هامَّة، ولقد لاحظتُ كثيرًا أن بعض الزُّملاء السَّابقين كان يُفضِّل عرض الأخبار السَّارَّة وتصوير الأمور وكأنها وردية، وآليتُ على نفسى أن أفعل العكس، وأن أتصرَّف مع صاحب الرَّأى الأوَّل فى البلاد وفقًا للسيناريوالأسوأ، وأشهد أنه كان يتحمَّس لذلك ويُفضِّل البدء بالأخبار السيئة والقضايا الصَّعبة حتى يكسب وقتًا بدلاً من مُجاملته والحديث عن الإنجازات دون الإخفاقات؛ لأن الحياة فى ظنِّى هى انتصار وانكسار، وليست وجهًا واحدًا على الإطلاق، وكثيرًا ما كان ولىُّ الأمر يطلب ملفًّا كاملاً يُمثِّل خلفية للخبر العاجل، وقد يجرُّنا ذلك إلى أخبار هامَّة، ولكنها ليست عاجلةً، ومع ذلك يحسُن عرضها مع الخبر العاجل؛ لأنها تُمهِّد له، وتضع خلفية كاملة لأحداثه.
إننى أُريد أن نتعلَّم أن لكل حقيقة وجهين، وأن على من يعرض الأمور على مُتَّخذِ القرار أن يكون أمينًا للغاية، وأن يُنحِّى مشاعره الشخصية، وأن يُجنِّب انتماءه الفكرى والسياسى إن وُجِدَ، حتى لا تتلوَّن الأمور على نحوٍ يُؤدِّى بصاحب القرار إلى اتِّجاهٍ قد لا يكون هو الأفضل، ولقد لاحظتُ دائمًا أن المعلومات الأمينة والتفاصيل الدقيقة تجعل القرار أكثر صوابًا، والتفكير أكثر رشدًا، وفى بداية عملى كنتُ أسرد على الرئيس الأسبق عناوين للموضوعات المطروحة العاجلة والهامَّة ومعى ملفٌّ لكل منها على حدة، ويُفاجئنى هو بطلب أحد تلك الملفَّات، ولو بطريقة تحكمية، حتى تيَّقن له أن كل شىءٍ يجرى إعداده بأمانة وصدق، خصوصًا أنه كان لا يسمح لشخص واحد بأن يحتكر أذنه، بل يُفضِّل الاستماع أيضًا إلى من يعرفهم مُباشرةً حول بعض الموضوعات، ومازلتُ أتذكَّر أنه قد فعل ذلك فى أزمة الأمن المركزى، حيث استمع إلى بعض ضُبَّاط الشرطة من أصحاب الدَّرجات المتوسطة والصغيرة حتى يعرف واقع ما يدور ويلُمَّ تمامًا بما يجب العلم به أمام ذلك الحدث الطارئ، وفى تلك الظروف المُعقَّدة التى اتَّخذ فيها الرئيس قراره فى منتصف الليل بحظر التَّجوُّل صيانةً للأرواح والمُمتلكات، وأشهد أنه اتَّخذ ذلك القرار بأعصابٍ هادئةٍ للغاية، ودون توتُّر على الإطلاق؛ لأنه أدرك أبعاد المشكلة، وأنها ذات طابع محلى وفئوى، وليست تمرُّدًا شعبيًّا عامًّا، وعندما كُنَّا نُوافيه بالأخبار التى تأتى تباعًا، فإن مهمتى كانت التَّنسيق فى عرضها وإعطاء الأولوية لبعضها مع وضع الرئيس الأسبق فى الصورة كاملةً دون تجميل أو رتوش؛ فقد كان يُفضِّل ذلك، ومعه كل الحقِّ، كما أن صاحب القرار يُدقِّق غالبًا فى مصدر المعلومة ويُمحِّص فى الظروف التى انطلق منها ذلك الخبر، وقد يحتاج الأمر إلى عددٍ من الاتِّصالات العاجلة التى يُجريها هو قبل أن يمضى لاتِّخاذ قراره، وذلك لمزيدٍ من الإيضاح، وللتأكيد على بعض المعلومات؛ لأن مصائر الدول أمانة فى عُنُق الحاكم فى كل زمان ومكان، ولقد تعلَّمتُ كثيرًا من الخبرات خلال عملى، وهى أن طريقة العرض هامَّة؛ بل ومُؤثِّرة أحيانًا فى طبيعة القرار، وعلى من يتحمَّل مسئولية عرض الأخبار والمعلومات العاجلة أو الهامَّة أن يكون مُتجرِّدًا ونزيهًا ويحتكم إلى ضميره فى كل تصرُّف؛ لأن طريقة العرض تُلوِّن القرار أحيانًا، وتُمهِّد له أو تُؤدِّى إلى تأجيله، وتلك كلها خياراتٌ ذات تأثير على الحياة العامَّة ومنطق الأمور.. ويبقى الضمير الوطنى هو سيِّد الموقف دائمًا.
مجلة 7 ايام
30 اغسطس 2018
https://www.7-ayam.com/%d9%87%d8%a7%d9%85-%d8%a3%d9%85-%d8%b9%d8%a7%d8%ac%d9%84%d8%9f/