مازلنا نتذكر ما جري توصيفه في منتصف خمسينيات القرن الماضي تحت مسمي أزمة المثقفين، حيث تناول الصحفيون والكتاب التفرقة بين أهل الثقة وأهل الخبرة علي اعتبار أن ثورة يوليو 1952 قد استبدلت بأهل الخبرة في المجالات المختلفة من تعتبرهم من أهل الثقة.
وتضمن ولاءهم لمجلس قيادة الثورة حينذاك. وقد كان معظم من استعانت بهم من العسكريين مع بعض المدنيين الذين التحقوا بقطار الثورة في أول عربة من أمثال عزيز صدقي ومصطفي خليل وسيد مرعي وغيرهم، وليس ذلك جديدا علي الثورات، فهي دائما تقوم بعملية استبعاد تلقائي لا لمن تظنهم خصوما لها فقط، ولكن ايضا لمن تري فيهم رموزا لعهد مضي، وذلك قد يكون تفكيرا مشروعا، إلا أن هناك محاذير تحيط بهذا الاسلوب من التفكير النمطي الذي يحتاج الي مراجع علي ضوء الأوضاع القائمة مع كل ثورة، والظروف المحيطة بها علي مستوي الدولة، ولم تخرج ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 عن هذا السياق التقليدي للثورات المعاصرة أو حتي الانقلابات العسكرية الطارئة ولكننا نتدارك هنا قائلين إن أهل الخبرة يمثلون تراكما معرفيا يرتبط بمصر الدولة، بينما قد يمثل أهل الثقة تراكما وطنيا محسوبا علي الثورة، ولعلي أسجل بداية أنني من غير المتحمسين للإطاحة بكل من عمل مع النظام السابق، مؤمنا بأن من شارك فيه ليس بالضرورة فاسدا، لأن هناك فارقا بين فساد العهد وفساد كل المشاركين فيه، إذ ليس كل من تعامل مع نظام فاسد هو فاسد بالضرورة، خصوصا إذا كان ذلك النظام قد استمر لأكثر من ثلاثين عاما كاملة متجاوزا العمر الافتراضي لأنظمة الحكم المعاصرة، كما أن كثيرا من النظم الفاسدة قد تتحلي ببعض الرموز الوطنية وتقبل منها هامشا للمعارضة تدرأ به الهجوم عليها وتجد في الإبقاء عليهم تجميلا لصورتها وتحسينا لدورها، لذلك يهمني هنا أن أسجل الملاحظات التالية:ــ
أولها: أخشي أن يمتد بشبابنا حماسهم الثوري علي نحو يؤدي إلي تفريغ كثير من مؤسسات الوطن وهيئاته من قيادات ذات خبرة مشهودة، أو عناصر ذات كفاءة معروفة بدعوي أنهم كانوا شركاء في نظام مبارك، أو تعاونوا مع بعض رموزه في مراحل معينة، وهنا لابد من وقفة موضوعية عادلة إذ لم تكن الصورة واضحة، كما نراها الآن، ولم تكن الحقائق قد تكشفت علي النحو الذي نشهده حاليا، فلم يكن حجم فساد ذلك النظام معروفا بهذه الدرجة، ولم نكن ندرك أيضا خواء مؤسساته السيادية والسياسية والأمنية علي النحو الذي جري كشفه مؤخرا، بل إنني أزعم ان الكثيرين ممن تعاملوا مع ذلك النظام قد عبروا في مناسبات كثيرة عن معظم شعارات ثورة الخامس والعشرين من يناير بطرق مختلفة لا تخلو من الرمزية أحيانا، والتغليف الدبلوماسي غالبا خشية بطش النظام وابتزازه لسمعة كل من كان يقف في طريقه، بل إنني حين أراجع مقالاتي المنشورة في السنوات العشر الاخيرة أجد فيها ما يدهشني من أن تلك الأفكار والعبارات قد مرت مع تدفق المياه الوطنية تحت جسور نظام كان مترهلا بفعل التزاوج بين الفساد والاستبداد، أي بين الثروة والسلطة، وهو ما أشرنا إليه في مناسبات عديدة قبل اندلاع ثورة يناير الشعبية بسنوات.
ثانيتها: كان النظام السابق يتمتع بقبضة أمنية غاشمة وأساليب تحتية للإساءة لكل من يحاول الخروج عن الخطوط العريضة له ورؤيته الضيقة التي أدت الي تراجع دور مصر الإقليمي ومكانتها القومية بصورة كانت مصدر خجل لنا عربيا ودوليا، ولقد عبرت شخصيا عن ذلك في محاضرة عامة قلت فيها بالنص إن الرئيس (مبارك) لا يهتم بالدور الإقليمي لـ(مصر) ولا تعنيه قيادتها القومية وقد اتخذت صحيفة البديل التي أسسها وأدارها الراحل د. محمد السيد سعيد من هذا التصريح عنوانها الاساسي، وكان الثمن غاليا إذ تباري كتاب الصحف المسماة القومية وقتها يلعنون صاحب التصريح، ويشهرون بتاريخه بشكل مبتذل للغاية، حتي أن رئيس تحرير إحداها جعل صفحته الأولي سجلا حافلا بالسباب والشتائم والعبارات القذرة ضدي، فقمت بتقديم بلاغ فوري للنائب العام ومازالت القضية أمام النيابة العامة لم يتم حفظها حتي الآن، وقد اكتشفت أن ذلك السباب كان جزءا من حملة جاءت بتعليمات مباشرة من الرئيس السابق حتي أنه قال لرئيس تحرير تلك الصحيفة في مناسبة عامة( حسنا ما فعلت بل وأرجو منك المزيد)، وهكذا كان يتعامل النظام الذي سقط مع كافة الرموز الاصلاحية في داخله، وهم الذين توهموا أن التغيير من داخل إطار النظم قد يكون مكملا لضغوط المعارضة من خارجه.
ثالثتها: إن الحديث عن أهل الثقة والخبرة يقتضي دراسة كل حالة علي حدة، والتوقف عن التعميم الظـالم ومحاولة فتح صفحة جديدة أمام العناصر غير المتورطة في جرائم يدينها قضاء مصر المعروف بالعراقة والشموخ ورفض الضغوط والاملاءات في مختلف الظروف، ولنتذكر دائما أننا أبناء وطن واحد لا تحتكر فيه الوطنية المصرية جماعة دون غيرها، كما أن لكل عصر ظروفه، ولكل عهد ملابساته، وليس كل من مر بـ ميدان التحرير قد أصبح ثائرا، وليس كل من تخلف عن الخروج أضحي خائنا! ولنتذكر أن النظام السابق قد قام بتجريف الدولة من كثير من كفاءاتها، وتعويق مسيرة المتميزين فيها بحكم مركب النقص الذي كان يقبع في أعماق رموزه فيدفعهم الي الإطاحة بكل صاحب فكر مهما كان انتماؤه، ولنتذكر ان نبي الاسلام محمد صلي الله عليه وسلم، قد ضرب المثال الرفيع في جمع الكلمة ولم الشمل حتي وصل به الأمر الي القول بأن خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام ولم يقم بعملية انتقام انتقائية، أو عملية فرز تحكمية، بل دعم الإسلام الحنيف بكل من قبل الدعوة وانضوي تحت لوائها.
... خلاصة ما أريد أن أذهب إليه من هذا المقال الشائك هو أن ألفت النظر الي ضرورة الحذر عند التفرقة بين أهل الثقة وأهل الخبرة حتي لا تخسر مصر الدولة بعضا من أكفأ ابنائها بينما لن تربح مصر الثورة من فقدانهم شيئا، والعبرة في النهاية تكون بالولاء، لتراب الوطن.. ولن نستبدل أبدا خوفنا السابق من ديكتاتورية انهارت بخوف جديد من مصدر مختلف مهما كانت الظروف والتحديات فمصر لأبنائها الشرفاء بغير تفرقة أو استثناء.
جريدة الاهرام
22 أغسطس 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/633/2011/8/22/4/96898.aspx