لا أبتعد كثيرا عن الواقع المصري حاليا عندما أكتب في موضوع يتصل بالقوة الناعمة لمصر عربيا ودوليا، فجامعة بيروت العربية هي واحدة من الآثار القومية والتعليمية لعصر الرئيس الراحل عبد الناصر الذي رعي الشراكة بين تلك الجامعة اللبنانية وجامعة الاسكندرية المصرية.
ولقد وضعتني الأقدار وجها لوجه أمام التطورات الأخيرة في الأزمة الحالية لتلك الجامعة الرائدة التي مثلت نموذجا للتعاون المصري اللبناني لأكثر من نصف قرن من الزمان، فقد كنت منذ أيام في بيروت زائرا بدعوة من مؤسسة الفكر العربي للتحكيم في جائزة أفضل كتاب عربي لهذا العام.
والتقيت هناك بعدد من أساتذة جامعة الاسكندرية الذين يمثلون هيئة التدريس في جامعة بيروت العربية، وعرفت منهم أن عددهم يصل إلي ما يقرب المائة في مختلف التخصصات، موزعين علي كليات الجامعة العديدة ومنشآتها الحديثة، ولقد بدأت المشكلة منذ عدة شهور عندما تمسكت جمعية البر والاحسان التي تقودها عائلة حوري اللبنانية صاحبة الأرض والشريك الأصيل مع جامعة الاسكندرية يوم أن كانت القوة الناعمة لمصر في الستينيات هي امتداد لمسألة الدور المصري الذي لا يتحمس له الآن قصيرو النظر ومحدودو الرؤية، لذلك لم أتردد عندما وضعتني الظروف أمام هذه المشكلة الوطنية ذات الطابع القومي أن أزور مقر الجامعة وألتقي برئيسها وممثل الجانب اللبناني فيها، حيث دار بيننا حديث طويل عن أسباب الأزمة وتداعياتها وكيفية الخروج منها، وتحدد لي موعد مع السيد فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان الأسبق وزعيم كتلة المستقبل في المجلس النيابي، وجدير بالذكر أن جامعة بيروت العربية قد درس فيها أمير قطر الحالي ورئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري وعشرات من الأسماء اللامعة من رؤساء حكومات ووزراء في مختلف الدول العربية، كما قام بالتدريس فيها رجال من طراز الأساتذة د. محمد زكي شافعي ود. رفعت المحجوب ود. عمرو محيي الدين، وترأسها أساتذة كبار من أمثال د. شمس الدين الوكيل ود. محمد كامل ليلة وغيرهم من الرموز المصرية البارزة، ولكن الدنيا تغيرت وجاء علي مصر حين من الدهر تقطعت فيه بعض أوصالها العربية واهتزت ـ بحق وبغير حق ـ صورتها القومية حتي أن الامام الأكبر الراحل د. محمد سيد طنطاوي سحب منذ عدة سنوات البعثة الأزهرية من لبنان وهي الركيزة الأساسية التي يعتز بها أهل السنة في ذلك البلد متعدد الطوائف، وقد عرفت مؤخرا من الإمام الأكبر الحالي د. أحمد الطيب أن البعثة الأزهرية قد عادت إلي ذلك البلد الشقيق، وتنحصر مشكلة جامعة بيروت العربية في تمسك جامعة الاسكندرية بضرورة عودة الرئيس المصري الحالي للجامعة نظرا لانتهاء مدته تمهيدا لإيفاد أستاذ جديد من جامعة الاسكندرية لشغل ذلك المنصب، وعندما امتنع رئيس الجامعة عن العودة قامت جامعة الاسكندرية بفصله لأنه تجاوز مدة إعارته، بينما الجانب اللبناني متمسك به، معتز بانجازاته، وفي ظني فإن ما يعنينا هو استمرار الوجود المصري في جامعة بيروت العربية التي رعاها الرئيس عبدالناصر شخصيا، وليس المهم في نظري شخص رئيس الجامعة مادام الجانب اللبناني مازال متمسكا بأن يكون أستاذا من جامعة الاسكندرية وبقرار من وزير التعليم العالي المصري علي أن يكون للجانب اللبناني رأي في اختياره ومدة بقائه وفقا لمصلحة الجامعة، وفي رأيي أن ذلك لا ينتقص من الدور المصري بل يجدده ويزيده حيوية، وقد قال لي رئيس وزراء لبنان المخضرم ـ الذي يعتز بمصر كثيرا ـ إن لديكم واحدا من الأمثال الشعبية الذي أتذكره دائما وهو (إن كبر ابنك خاويه!)، ولذلك اجتهدت بدافع ذاتي وإيمان قومي وحرص وطني علي الاتصال بالصديق العزيز الأستاذ الدكتور معتز خورشيد وزير التعليم العالي المصري المعني بملف هذا الموضوع وأطلعته علي ما أقوم به وأسعي إليه، وأكد الرجل بوطنيته وثقافته أن هدفنا هو الحرص علي الوجود المصري في ذلك الصرح الثقافي التعليمي وسط أكثر العواصم العربية تألقا ورقيا، ولقد تقدمت بمشروع مبدئي لطرحه علي الجهات المعنية في مصر بعد حصولي علي موافقة مبدئية من الجانب اللبناني، كما رويت جزءا من أبعاد المشكلة للكاتبين الكبيرين سلامة أحمد سلامة من مصر وجهاد الخازن من لبنان، فنحن الثلاثة حضرنا إلي العاصمة اللبنانية لمهمة واحدة تتصل بمؤسسة الفكر العربي. وأستطيع أن ألخص تصوري لحل هذه الأزمة ـ التي تحتاج إلي قرار سياسي وليس لمجرد اشتباك وظيفي أو إداري في النقاط التالية:
1ـ اعادة النظر في قرار فصل رئيس جامعة بيروت العربية حاليا، فهو في النهاية ابن جامعة الإسكندرية حتي وإن رأت إدارتها في تصرفه تجاوزا غير مقبول، كما أوصي بالموافقة علي التمديد له لمدة جديدة استجابة لرغبة الجانب اللبناني الشريك الأساسي في الجامعة، خصوصا أن ذلك الأستاذ قد عرف هذه الجامعة طالبا وأستاذا ورئيسا، وقد كان والده أيضا أستاذا فيها.
2ـ السماح بالسفر لأساتذة جامعة الإسكندرية الذين منعت إدارتها إيفادهم هذا العام للحاق بعملهم الجديد في جامعة بيروت العربية، علما بأن جامعة الاسكندرية هي المصدر الوحيد لهيئة التدريس برغبة من الجانب اللبناني، بل وترحيبه وسعادته.
3ـ النظر في إعادة الأرض التي اشتراها الجانب اللبناني في الإسكندرية بما يقرب من 18 مليون دولار تم دفع (المقدم) المطلوب لها، ولكن محافظة الإسكندرية ألغت التخصيص لتأخرهم في الحصول علي ترخيص البناء وأقترح وضع قيد يمنع الجانب اللبناني من بيع هذه الأرض إلا بموافقة جامعة الإسكندرية وشراكتهم فيها، لأن وعاء الاستثمار هو أرض مصرية في النهاية.
4ـ عند اختيار رئيس جديد للجامعة يقوم الجانب اللبناني بترشيح ثلاثة من أساتذة جامعة الإسكندرية ويترك لوزير التعليم العالي المصري أن يصدر قرارا بمن يختاره منهم رئيسا لجامعة بيروت العربية، وبذلك تتحقق الشراكة الحقيقية في اختيار رئيس الجامعة بدلا من أن ينفرد بها الجانب المصري وحده، ولنتذكر أن ما لايدرك كله لا يترك كله كما أننا يجب ألا ننسي المثل الشعبي المصري الذي ذكرني به دولة الرئيس فؤاد السنيورة حتي لا نعرض جامعة بيروت العربية لمصير جامعة القاهرة فرع الخرطوم!.
.. أيها السادة.. انتبهوا إن الصروح التعليمية والثقافية والدينية لمصر تتهاوي في بعض العواصم العربية نتيجة بعض أخطائنا التي تتمثل في ضيق النظرة وغياب الرؤية والمضي وراء الإجراءات الإدارية بديلا للحسابات السياسية!
جريدة الاهرام
18 اكتوبر 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/689/2011/10/18/4/107540.aspx