ثقافة الزحام يعرفها المصريون جيدا في دولة تعاني من مشكلة سكانية مزمنة، ولقد كنت أتحدث في إحدي المحاضرات عام 2010 فقلت إن عدد السكان في مصر قد تضاعف في عصر الرئيس مبارك فقام أحد شباب الحاضرين.
وقال إن المشكلة ليست في معدل زيادة السكان ولكنها طول مدة رئاسة الرئيس! وضجت القاعة يومها بالضحك وأيقنت في أعماقي أن ما قاله ذلك الشاب لا يخالف الحقيقة، إنني أدخل من المشكلة السكانية التي نعاني منها إلي فهم الآثار السلبية لثقافة الزحام التي نعيشها بل أزعم أن معظم مشكلاتنا في التعليم والصحة والإسكان ونصيب الفرد المحتمل من المياه مع تدهور المرافق عموما بل والبطالة والجريمة المنظمة وحالة الاكتئاب العام إنما تعود في مجملها إلي ما نطلق عليه ثقافة الزحام فالأعداد كبيرة والفرص قليلة، وإذا كان مؤرخ الجغرافيا العظيم د.جمال حمدان، قد تحدث عن مصر، الزمان والمكان والسكان، فإن ذلك يقودنا بالضرورة إلي فهم أبعاد المشكلة السكانية التي تعتبر ثقافة الزحام أبرز مظاهرها لذلك دعنا نتأمل الملاحظات التالية:
أولا: إن السؤال المطروح هو هل تتحدد قيمة الدولة بحجم سكانها أم أن المسألة أبعد من ذلك وأعمق خصوصا أنني أظن أنه قد وقر في العقل المصري منذ عدة عقود أن المكانة الدولية والإقليمية لبلدة مستمدة في معظمها من ضخامة الحجم السكاني مقارنا بالدول العربية الأخري، وقد يكون ذلك صحيحا ولكنني أؤكد أن عدد السكان لاينهض وحده دليلا علي قيمة الدولة ومكانتها فهناك مقومات أخري تتصل بحجم الناتج القومي ومعدل النمو السنوي ومستوي التعليم وانجازات البحث العلمي فضلا عن تأثير القوي الناعمة التي تملكها الدولة وأحسب أن لمصر نصيبا منها.
ثانيا: قال الرئيس الراحل عبدالناصر في إحدي خطبه موجها حديثه إلي الحسين بن طلال ملك الأردن الراحل إنني أريدك أن تعرف أن عدد سكان الأردن (في منتصف ستينيات القرن الماضي) يعادل عدد سكان شبرا أحد أحياء القاهرة! ولقد امتد هذا الزهو المصري بالحجم السكاني إلي الرئيس السادات أيضا الذي لم يتورع عن وصف خصومه العرب بكلمة الأقزام أما الرئيس السابق مبارك فعلي الرغم من حديثه المتكرر عن المشكلة السكانية ومخاطر انفجارها إلا أنه تناولها من زاوية واحدة وهي محاولة تحجيم عدد المواليد وتلك خطيئة أخري لم نتنبه لها حتي الآن.
ثالثا: إن مواجهة الانفجار السكاني لا تكون بالتحكم في عدد المواليد فقط، ولكن تكون بتحويل الكم إلي كيف، أي الارتقاء بالإنسان المصري وتحسين نوعيته عن طريق التعليم والتدريب وكفالة الرعاية الصحية المناسبة مع تقديس عنصر العمل باعتباره المورد الرئيسي لنهضة الأمم ورقي الشعوب، كما يجب أن ندرك أن الزيادة السكانية في مصر قد تواكبت ـ للأسف ـ مع انخفاض النوعية فالأعداد الجديدة في معظمها تأتي من أسر محدودة الدخل وبيئات فقيرة قد لا تنال فرصة التعليم أو التدريب أو الرعاية الصحية، لذلك فإن القضية السكانية هي قضية تنموية بالدرجة الأولي ولعل التجربة الصينية وإلي حد ما التجربة الهندية تكشفان لنا عن التفسير الدقيق لما نقول، فالزيادة السكانية ليست نقمة إلا علي الشعوب التي لا تحترم قيمة العمل ولا تعظم معدلات الإنتاج بينما هي نعمة بل وقيمة مضافة للشعوب الساعية بجدية والتزام نحو غايات واضحة وفقا لرؤية متكاملة.
رابعا: إن ثقافة الزحام لا ترتبط فقط بالمشكلة السكانية ولكن أيضا بسوء التنظيم وقصور الإدارة وانهيار قيم احترام الآخر وغياب الشعور بهيبة الدولة، وتكفي نظرة واحدة علي أحد شوارع بكين في ساعات الصباح الأولي لنري ملايين الصينيين يسعون إلي أعمالهم في نظام ودقة وترتيب يدعو إلي الإعجاب لأن فقه الأولويات واضح لديهم كما أن فهمهم الواجب يسبق غالبا مطالبتهم بالحقوق فأين نحن من هذا؟! إن ثقافة الزحام ليست تعبيرا انشائيا نلوكه في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها أغلي الأوطان ولكنها تعبير عن الأزمة التي يعيشها الشعب المصري في العقود الأخيرة، فالفصول الدراسية مكدسة الأعداد والمواصلات العامة شديدة الزحام والمستشفيات لا تفي بحاجات المرضي سواء الحالات المزمنة أو الطارئة كما أن المرور في شوارع العاصمة والمدن الكبري مأساة لا تخفي علي أحد بل إنها تصيب القادمين إلينا أحيانا بشي من الهلع!
خامسا: إن استقراء التاريخ يوحي بأن الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية تولد أحيانا من رحم ثقافة الزحام حتي ولو جاء ذلك تحت مسميات مهذبة من نوع المستبد العادل أو الرئيس الضرورة فالزحام يولد طاقة من العنف بل ويضرب الديمقراطية في مقتل أحيانا فباستثناء التجربة السياسية الهندية لا نكاد نشهد ديمقراطية كبري في العالم النامي بهذا الحجم عندما يتجه ما يقرب من سبعمائة مليون هندي لهم حق التصويت إلي صناديق الاقتراع علي مدي ثلاثة أشهر كاملة لانتخاب المجلسين الأدني والأعلي في البرلمان الهندي (اللوك صابها) و(الراجا صابها) فأين نحن من هذا؟! إن أربعين مليون ناخب أو ما يزيد قليلا يصيبوننا بشيء من الذعر خشية سوء التنظيم وفوضي الإجراءات!
لقد أردت من هذه الملاحظات الخمس أن أنبه إلي مخاطر نظرية الأعداد الكبيرة في ظل الموارد المحدودة وما ينجم عنها من تداعيات تصيب السكان وتهز قيم الإنسان وتكاد تعبث بعبقرية الزمان والمكان! إنني ألفت النظر مخلصا إلي ضرورة وجود مجلس أعلي للتخطيط القومي لا يقف عند حدود الأرقام والحسابات ولا يضم فقط المتخصصين في علوم الاقتصاد والمحاسبة وإدارة الأعمال بل يتجاوز ذلك إلي حشد من العقول المصرية المتميزة في كل التخصصات النظرية والتطبيقية للاتفاق علي رؤية شاملة ونظرة متكاملة نصلح بها سوءات الحاضر ونقرأ معها تحديات المستقبل حتي نمضي علي طريق الإصلاح الحقيقي، فالشارع يصنع الثورة ولكن النخبة هي التي تصنع النهضة، فليكف الجميع عن محاولات الإقصاء والتهميش أو الاستبعاد والعبث بكفاءات أبناء مصر وبناتها من كل الاتجاهات السياسية أو المنطلقات الفكرية أو المعتقدات الدينية، فالوطن محتاج إلي العقول النيرة لأبنائه.. كل أبنائه!
جريدة الاهرام
14 نوفمبر 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/717/2011/11/14/4/112946.aspx