كتب أستاذي الدكتورعبدالملك عودة مؤلفه الشهير السياسة والحكم في أفريقيا مع مطلع ستينيات القرن الماضي وأعجبني كثيرا وقتها تلك التفرقة بين السياسة والحكم فالأولي ممارسة والثانية مسئولية.
ولا أعرف لماذا قفز إلي ذهني ذلك العنوان الذي يتمتع بدرجة عالية من الإحكام النظري وأنا أتابع المشهد السياسي المصري في الأشهر الأخيرة وأشعر بأن الإمام حسن البنا يستريح في مرقده بعد أن حققت فكرته التي غرسها منذ أكثر من ثمانين عاما ــ وهي الميلاد الحقيقي لحركة الإسلام السياسي في العالم كله.. نجاحا واضحا بحصول جماعة الإخوان المسلمين علي عدد كبير من المقاعد في البرلمان المصري مدعومين برديف سلفي يكون عونا لهم عند اللزوم.
فالإمام الشهيد عندما بدأ دعوته بعد سقوط آخر خلافة إسلامية بسنوات قليلة ربما لم يكن يتوقع أن تحقق تلك الدعوة ذلك النجاح الذي بلغته رغم التحديات والمصاعب والمواجهات في العصرين الملكي والجمهوري، ورغم أنني أعترف بداية باختلافي مع فلسفة الجماعة ومنهجها السياسي والاجتماعي وقيامها بسلسلة من الاغتيالات في أربعينيات القرن الماضي إلا أنني عشت دائما علي الحافة قريبا منها غير بعيد عنها بحكم النشأة قريبا من المدينة التي خرج منها الإمام حسن البنا ونائبه الأستاذ أحمد السكري بأحد مراكز محافظة البحيرة التي قدمت للأزهر الشريف أبرز علمائه، وعلي رأسهم الإمام المجدد الشيخ محمد عبده، كذلك توطدت علاقتي وأنا طالب بالدكتوراه في لندن مع الدكتور محمود أبو السعود أستاذ الاقتصاد وهو من أقطاب الإخوان وتناقشنا كثيرا وتحاورنا طويلا واتفقنا قليلا، كما عرفت في حياتي الفقيه القانوني الإخواني الدكتور توفيق الشاوي صهر السنهوري باشا وقد كان أستاذا في الجامعات المغربية كما التقيت كثيرا بالقطب الإخواني صالح أبو رقيق ابن محافظتي والدكتور فريد عبدالخالق ذلك الرجل الكبير الذي أنصف عبدالناصر في حديث تليفزيوني مرتفعا فوق الجراحات والأحزان، كما ربطتني علاقة طيبة للغاية بالمرشد العام السابق الأستاذ محمد مهدي عاكف في السنوات العشر الأخيرة ودعاني المرشد العام الحالي الدكتور محمد بديع لأكثر من اجتماع للجماعة كباحث سياسي يرقب الأحداث كما أسعدني اللقاء دائما بأصدقائي الدكاترة محمد مرسي وسعد الكتاتني وعصام العريان والأستاذ سيف الإسلام البنا ذلك الصديق الزاهد الذي يجيش عاطفة ويذوب أدبا والأستاذين حسين إبراهيم ومحمد عبدالقدوس وغيرهم، ولكن بقيت خطيئة انتخابات2005 وزرا أحمله علي كاهلي رغم أنه لم يكن لي خيار واسع بشأنها كما أن تقرير محكمة النقض قد استبعد شبهة التزوير الذي لا أتحمل شخصيا مسئولية ما حدث فيه وذلك كان هو مبرر استمراري في عضوية مجلس الشعب مستندا إلي تقرير المحكمة العليا مهما كانت الملابسات السياسية والظروف التي تمثلت في شيوع ثقافة التزوير حينذاك في معظم الدوائر الانتخابية، ولقد استقبلت بالاحترام والتقدير الموقف الأخير للمستشارة الدكتورة نهي الزيني في إحدي الفضائيات وهي تحلل ذلك الحدث الذي كانت شاهدة عليه تحليلا موضوعيا يتيح لي درجة من الإنصاف خصوصا إذا صدر عن قاضية مثقفة يحترمها الجميع، والآن دعني أطرح الملاحظات التالية علي طريق الإخوان بين السياسة والحكم:
أولا: يجب أن أعترف بأنه تربطني بشخصية الإمام حسن البنا درجة عالية من الإعجاب انعكست علي مقدمة كتابي(تجديد الفكر القومي) الذي صدر في مطلع تسعينيات القرن الماضي حيث أخذت من بعض تصريحاته ما يؤكد العلاقة الوثيقة بين الفكر القومي والنهج الإسلامي، ولقد أسعدني أن الدكتورة استشهاد البنا ابنة الإمام الراحل قد ذكرتني أخيرا. وبعد ثورة يناير2011 ــ بكلمات طيبة في حديث تليفزيوني وحوار صحفي، وتلك أخلاق الكبار دائما الذين يردون الفضل لأهله ويذكرون حسن الصنيع، ولعل الكثيرين يتذكرون محاضرتي في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام1993 التي طالبت فيها علنا بتمثيل الإسلاميين نيابيا لأنه لايجوز حرمان قوي سياسية موجودة بالفعل تحت دعوي الحظر القانوني مهما كانت الأسباب شريطة التزامها بالقواعد العصرية للديمقراطية الحديثة وأولاها أن الأمة هي مصدر السلطات، وبهذه المناسبة فقد سعيت مع غيري لاستعادة مبني قسم الدرب الأحمر المقر الأول للجماعة لأن غرامي بالتاريخ أكبر من كراهية بعض أعضائها لي! فذلك المبني التاريخي يجب أن يحيله الإخوان المسلمون إلي متحف للمرشد الأول.
ثانيا: إن المشهد العام يشير إلي قوتين أساسيتين علي المسرح السياسي هما التيار الإسلامي علي المستوي الشعبي والمجلس العسكري علي المستوي الرسمي، وأنا ممن يظنون أن العلاقة بينهما هي الفيصل في تحديد مسار الثورة بل وتشكيل الإطار العام للدولة، فالعلاقة بينهما إما أن تكون تعاونا يعود علي الوطن بالخير أو صداما قد يؤدي إلي كارثة( نموذج أحداث1954)، بينما تقف القوي الليبرالية. وهي ليست هينة بل ويفوق تأثيرها ما أفصحت عنه صناديق الانتخاب. علي مسافة غير بعيدة من التعاون الممكن أو الصراع المحتمل فمستقبل مصر ملك للجميع لاتستأثر به فئة دون غيرها ولا تحوزه جماعة وحدها.
ثالثا: إن العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والأقباط تحديدا بل والمسيحيين المصريين عموما لم تكن أبدا علاقة صدامية ولا أظنها سوف تكون، إذ مازال الإخوان يتذكرون أن السياسي القبطي الكبير مكرم عبيد باشا كان هو وحده من بين رجالات الدولة الذي شيع جنازة الإمام الشهيد بعد اغتياله حيث ظل ينزف دما لعدة ساعات بصورة متعمدة حتي فارق الحياة، ولاشك في أن الذاكرة الإخوانية ومعها الذاكرة القبطية يمكن أن يبنيا من جديد صرحا متينا للوحدة الوطنية يعيد إلي الأذهان رائحة ثوار1919، وأنا أدعو الإخوان هنا. مخلصا وصادقا. إلي ضرورة الانفتاح علي القوي الأخري والأفكار المختلفة لأن تقويم الناس لهم ودرجة شعبيتهم سوف تتحدد بمدي نجاح سياستهم الاقتصادية بالدرجة الأولي ولهم في النموذج التركي قدوة حسنة.
إن سنوات الفرص الضائعة التي اتخذتها عنوانا لبرنامج تليفزيوني وكتاب يصدر عنه سوف تكون مؤشرا موضوعيا للصراع الذي فجر الثورة الشعبية في الخامس والعشرين من يناير2011 وكان وقودا طبيعيا لحالة الإحباط التي تغلغلت في أعماق الشباب المصري، لذلك فإنني أدعو كل القوي السياسية بل وكل أطراف الجماعة الوطنية إلي كلمة سواء تنتشل مصر من حالة الفوضي التي تقف علي مشارفها وتعدل المسار نحو الغايات الحقيقية للدولة المصرية العريقة مؤكدا أن أي صدام بين تداعيات الثورة ومقومات الدولة سوف يدفع ثمنه الباهظ الشعب المصري لعقود قادمة... دعني في النهاية أتذكر مشهد إعدام شهيد الرأي عبدالقادر عودة شقيق أستاذي الذي بدأت بكتابه هذا المقال وهو والد العالم الكبير خبير النيل الدكتور خالد حينما قال والده وهو يقف علي طبلية الإعدام:(اللهم اجعل دمي وبالا عليهم واجعل بأسهم بينهم شديدا)... وكأنما استجابت السماء!
جريدة الاهرام
9 يناير 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/773/2012/1/9/4/123995.aspx