الغضب شعور إنساني طبيعي يتملك صاحبه إذا شعر بالظلم الفادح أو رأي تناقضا فاضحا, ولقد قال أحد الأئمة الكبار من استغضب فلم يغضب فهو... وغضبة الشعوب قوية وانتفاضتها كاسحة ولا أعرف لماذا أتذكر الآن سؤال عميد الأدب العربي لتلميذه ناصر الدين الأسد بعد ملاسنة محدودة بينهما في خمسينيات القرن الماضي.
لقد قال له العميد أغاضب أنت يا ناصر؟ فرد عليه ذلك المفكر الأردني بل أشد الغضب, فهو إذن شعور مشروع لا ينتقص من الاحترام المتبادل ولا يدين صاحبه علي الإطلاق. وأتذكر أنني سألت قداسة البابا عندما كنت موفدا إليه بعد حدث طائفي جسيم أغاضب أنت يا سيدنا!؟ فأجابني بل حزين من أجل الوطن قبل غضبي من أجل الطائفة, من هنا فإنني أقول إن الغضب سلوك بشري فلقد غضب الأنبياء والمرسلون, وغضب الصحابة وأمهات المؤمنين, وهل ننسي شعور السيدة عائشة بعد حديث الإفك,وردها علي نبي الإسلام وهو ينقل إليها القرار الإلهي ببراءة الحميراء, فأجابته في غضب إنما برأني الله ورسوله, أقول ذلك وعيني علي الشعب المصري بسلوكه الغاضب أحيانا في بعض مراحل تاريخه الطويل, كما أن تعبير جمعة الغضب, هو في ظني أكبر علامات الثورة الشعبية وأكثر دلالاتها إيحاء بالشعور المصري العام, ولكن للغضب في ظني ثقافته التي يجب أن تشيع فينا وأن تستقر لدينا, دعني أطرحها في الملاحظات التالية:
أولا: إن الغضب في مختلف الشرائع والأعراف نمط معروف من المشاعر يلزم صاحبه بحدود لا يتجاوزها إذا أراد أن يمضي وراء مظلة الحياة, وأن يلتزم بناموس الوجود في العلاقات بين البشر, ولقد تعلمت من حياتي أن الغضب المنفلت يحمل صاحبه وزرا قد لا ينتهي أبدا, لذلك فإن غضبة الشعوب يجب أن تتسم بالوعي الجمعي, وأن تخرج من نطاق العاطفة الهادرة ـ عند حد معين ـ لكي تمر بعقل الأمة وضميرها, بحيث يكون غضب الجماهير سندا لها وليس خصما منها, ونحن نؤمن بأن انفعال الجماعات يكون غالبا أشد عنفا من انفعال الأفراد ولكننا ندرك أيضا أن العقل المشترك والضمير الواحد قادران علي تعبئة الشعوب نحو الاتجاه الصحيح.
ثانيا: إن الغضب المحسوب الذي يخضع لضوابط عقلية وانتماءات وطنية, هو وحده القادر علي تحريك الأمم نحو الأفضل, فلكل عصر دعاته, ولكل وقت حساباته, ولا ينبغي أبدا أن يخلط اندفاع الجماهير بين ترف العاطفة وسطوة العقل, فنحن محكومون في النهاية بمبادئ وغايات وأهداف يجب أن نلتزم بها.
ثالثا: إن الغضب الأعمي سلوك أحمق يجر صاحبه إلي موارد التهلكة, كما أن استمراء ممارسة الغضب ومواصلة المضي فيه سلوكا لا يتوقف أو تعبيرا لا ينتهي قد يؤدي إلي خروج المجتمع عن خطوطه العريضة, ويوجد زخما واسعا من العداوات, ويفتح باب تصفية الحسابات, ويعطل في النهاية مسيرة الأمة, لذلك فإن الشعب الغاضب الذي اختزن المرارة لعشرات السنين وعرف معاناة البطالة والتهميش وذاق قهر الاستبداد واشتم رائحة الفساد مطالب اليوم ـ ورغم كل ذلك ـ بعملية ضبط للانفعالات مع توظيف كامل للعقول المتميزة.
رابعا: إذا كنا نتحدث عن الغضب فلنتذكر غضب السلطان حين يقصف الأقلام ويقطع الأرزاق ويهدد الأعناق, فويل لمن يذوق جبروت الطاغية وسطوته الدائمة, لذلك فإنني أجد أحيانا عذرا فيمن ينفلت غضبهم من المعذبين في الأرض أو يتجاوز رد فعلهم من عامة الناس, فمخزون الألم كبير ورصيد القهر أكبر.
خامسا: إننا لا ننكر حق صاحب العقيدة في الغضب من أجلها ولا ننتزع منه التزامه بمكانتها في وجدانه ونرفض كل محاولات تشويه الحقائق, ونؤمن بأن غضب الإنسان من أجل عقيدته الدينية أو اقتناعاته الفكرية أو هويته الوطنية هي أمور مشروعة لا نجادل فيها ولا نرفض وجودها, كما أننا نعترف بأن حجم المخزون لدي الشعب المصري من تراكمات العقود الأخيرة قد رسب لديه مشاعر معقدة وانفعالات متداخلة.
.. هذه ملاحظات أردنا بها إن نقول إن الغضب ليس انفعالا مطلقا ولكنه شعور إنساني تحكمه الضوابط أحيانا وتقوده الانفعالات دائما ولكن عندما تدلهم الأمور وتتكاثر الغيوم فإن صحوة العقل مطلوبة وإرادة الإنسان هي التي تقرر في النهاية طبيعة مشاعره ونوعية انفعاله, إنني أقول ذلك الآن مطالبا بأن يكون الغضب المشروع الذي يجتاحنا جميعا كلما راجعنا الماضي وشهدنا الحاضر من طاقة سلبية هائلة إلي طاقة إيجابية مؤثرة تنظر إلي الأمام أكثر مما تنظر إلي الوراء, تتطلع إلي المستقبل أكثر مما تطعن الماضي, علي أن يترك الجميع لحكم القضاء وسيادة القانون الكلمة الفصل في نهاية الأمر, بحيث تتجه جهود الشباب نحو البناء والتعمير واستخراج الكفاءات الكامنة والخبرات المتاحة دون استبعاد أو إقصاء بلا مبرر قانوني أو سند أخلاقي, ولعلي أشير في هذا السياق إلي ثلاث ملاحظات مهمة:
الأولي: ضرورة التزام الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب بالمفهوم العلمي, للغضب والتعامل معه كسلوك إنساني إيجابي هو جزء من ثقافة المجتمع وليس أبدا أداة للبطش أو التجريح أو الابتزاز.
الثانية: أهمية ملء الفراغ السياسي الناجم عن سقوط بعض مؤسسات الدولة وتركيز حملات الغضب تجاه بعضها علي نحو قد يعصف بكيانها ذاته, ولعلي أشير إلي مؤسسة الشرطة ذات الأهمية البالغة في ضمان الأمن وكفالة استقرار الشارع المصري.
الثالثة: إن المؤسسة الدينية ـ الإسلامية والمسيحية ـ مسئولة أمام الضمير الوطني لهذا الشعب الذي يضرب فيه الدين بجذوره العميقة, بأن تسعي إلي التركيز علي المستقبل وتبصير المؤمنين بأن مصلحة الأمة وتحقيقها واجب شرعي يجب الالتزام به والسعي نحوه, أما الاستسلام للغضب دون خلفية فكرية أو مظلة ثقافية, فلن يكون مجديا علي الإطلاق.
إننا نظن مخلصين أن الغضب أمر متوقع في إطار التجاوزات التي بدأنا نسمع عنها ونقرأ بشأنها, ولكن ما يؤرقنا بالفعل هو أن يتحول الغضب إلي هدف في حد ذاته أو غاية تسبق غيرها, بينما الغضب وسيلة مشروعة في ظل ضوابط محددة تسعي إلي تحقيق أهداف معينة, لذلك فإننا نقول يا عقلاء الأمة تعالوا إلي كلمة سواء من أجل وطن نحبه جميعا وأرض طيبة عشنا فوقها ونهر عظيم شربنا منه كلنا, أقول لهم إن اللحظة فارقة والظرف صعب والتحديات الخارجية والداخلية أكبر من أن تعرف وأضخم من أن توصف, لذلك فإن مستقبل مصر أمانة لا يمكن التخلي عنها أو الهروب منها أو المتاجرة بها.
جريدة الأهرام
28 يونيو 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/577/2011/6/27/4/86278.aspx