لا أظن أن هناك من عاني من سوء التأويل واجتزاء النص والافتراء علي الحقيقة مثلما شعرت به في الأسابيع الأخيرة, فلا بأس أن تتعرض لحملة سياسية وإعلامية فتلك طبيعة العمل العام ومن يتصدي له.
, ولكن الانتقاء التحكمي والتفسير المتعمد للأفكار والعبارات دون تجرد أو موضوعية ولكن بحسابات مسبقة ونتائج مفترضة فإن ذلك افتئات علي الحق والحقيقة وتجاوز لا ترضي به ثورات الشرفاء, أقول ذلك وأنا اقرأ في الصحف وأتابع في التلفاز عملية التعميم الجائرة وبعض الاتهامات المرسلة.
نعم كنا نعلم جميعا أن معظم الانتخابات البرلمانية والمحلية مزورة ولكن ذلك كان يأتي في سياق تقليد عبثي تعود عليه الناس وحين يتهمني كل من هب ومن دب ومن عرف ومن لم يعرف بأنني قبلت مقعدا برلمانيا جاء بالتزوير عليهم أن يدركوا أنني لم أحضر عملية الفرز ولا علم لي بما يمكن أن يكون قد جري فيها ثم انتظرت تقرير محكمة النقض في الطعن الخاص بتلك الانتخابات ووجدته ينفي واقعة التزوير ويقرر البطلان لأخطاء إدارية مثل مئات الحالات في البرلمان, كما أن دخولي تلك الانتخابات كان أقرب إلي المؤامرة التي استهدفتني أكثر منه قرارا سياسيا خالص النية ولا أعفي نفسي من المسئولية إذ ليست الانتخابات عملا فكريا ولا نشاطا ثقافيا ولكنها شئ آخر له أهله وخبراؤه ومريدوه, نأتي للنقطة الثانية وهي التي تدهشني كثيرا وتتصل بحديث صحفي منذ أكثر من عام قلت فيه( إن هناك من يري أن رئيس مصر لا يأتي إلا برضاء أمريكي وبمباركة إسرائيلية) وكان المعني واضحا لا لبس فيه والإشارة مباشرة إلي مسرح سياسي يجري إعداده ورئيس قادم تقرر اختياره وأنا استحق التهنئة علي شجاعة الكلمة بهذه العبارة التي فتحت علي أبواب الجحيم وحاول البعض ـ ظلما وبهتانا ـ أن يصورني كما لو كنت مؤمنا بذلك ولست مجرد راوية علي مشهد يمثل أمامه, وقد التقط الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل بفطنته وخبرته وذكائه ماذا أعني بما قلت وأن العبارة ليست رأيا لي ولكنها شهادة مني لذلك اتهمني بأنني شاهد ملك وهو ما يعني أن الرسالة قد وصلته واضحة وصريحة وقامت صحيفة الحزب الحاكم بسبي علي صفحتين كاملتين واستكتبت زملائي وأصدقائي حتي قال أحدهم هذه عينة من( فلتات الفقي المعتادة) واستهدفتني الأقلام من كل جانب ـ الحكومة والمعارضة علي حد سواء ـ وكأنما ألقي بي الأستاذ الكبير هيكل ككرة نار قذف بها النظام القائم وظل يرقب ردود الفعل في دهائه الراقي وحكمته العميقة, ولذلك فإن هذه العبارة تحسب لي تماما وتثبت أنني أقول ما أري وأشهد بما أشعر به ولكن الغريب أن كثيرا من المثقفين المصريين خصوصا في الأسابيع الأخيرة ينتزعون هذه العبارة من سياقها الحقيقي ويبحثون لها عن معني آخر كما لو أنني كنت صاحب هذه الفكرة ولست فقط الراوي لها والناقل عنها, بل إن ناقدا أدبيا مثل الدكتور صبري حافظ, الذي كان زميلا لي في جامعة لندن. يفهمها بنفس الطريقة التي حاول بها المغرضون بلا سند ودون وعي علي نحو يجعلني أشعر أن محاكم التفتيش المنصوبة هي محاولة جديدة للاغتيال المعنوي الذي عانيناه طويلا من قبل ثم جاءت دورة جديدة له لكي تضيف إلي هموم العمر هموم ثورة الشرفاء التي باركناها منذ اللحظة الأولي بل وبشرنا بها كثيرا ولكن هناك من لا يفهم الحقيقة لأنه لا يريد أن يفهمها ويتصور أننا كان يجب أن نكون فرسانا بسيوف حادة النصال أمام من يستطيعون تشويه الصورة والعبث بالتاريخ الشخصي والسعي إلي سوء التأويل الدائم, ونسي هؤلاء وأولئك أنني ابن الدبلوماسية المصرية التي قضيت في خدمتها خمسة وثلاثين عاما وتبوأت منصب السفير بالأقدمية المعتادة, كما تركت عملي في مؤسسة الرئاسة منذ عشرين عاما كذلك فإنني لخصت معاناة جيلي كله تحت تعبير الجيل المسروق والذي شبهته بـ الطابق المسحور في البنايات الكبيرة حيث لا يقف عنده المصعد, وعندما قلت إن هناك ومضات ايجابية علي صعيد الشأن القبطي في العقدين الأخيرين تجد من يقول إننا نعني بذلك الإشارة الي عصر ذهبي في كل جوانبه! بينما كان هدفنا هو التركيز فقط علي الشأن القبطي ومشكلاته وهي نطاق تخصصي في مرحلة معينة, كما أنني بذلت في هذا الشأن جهدا مخلصا عبر السنين إيمانا مني بأننا ننتمي إلي نسيج واحد لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي, فرباط الوطن أقوي من كل ما عداه.. بقيت أمامنا بعض الملاحظات التي أرجو أن يتسع صدر أبنائنا من الأجيال الجديدة لتأملها والبحث فيها:
أولا: إن ثورة الشرفاء قد ولدت في الخامس والعشرين من يناير2011 ولكن ميلاد مصر الدولة أسبق من ذلك بآلاف السنين ولا يتصور أحد أن كل من عاش أو تعايش مع الأوضاع السابقة علي تلك الثورة المجيدة هو ملوث بالطبيعة أو سيئ بالضرورة فكلنا بشر يخطئون ويصيبون ولكن النظرة الاستبعادية هي نظرة ظالمة لم يقبلها الإسلام ذاته بعد نزول نور الهداية علي أقوام الجاهلية!
ثانيا: إن العمر البشري خبرة, ومرور السنوات تجربة ولا يمكن أن نلغي بجرة قلم كفاءات تنتسب لأصحابها وقدرات تراكمت مع وقر السنين, فالحياة في النهاية تمضي بحماس الشباب وأيضا بحكمة الشيوخ والذين يتصورون غير ذلك إنما يسبحون في بحار الوهم بل ويعومون أيضا ضد التيار.
ثالثا: لقد أصدرت كتابا منذ سنوات تحت عنوان حوار الأجيال ضمنته بعض ما كتبته في الصور الثلاث عبدالناصر والسادات ومبارك واكتشفت أن هناك خيطا مشتركا يربط بين أفكار كل ما كتبت وهو المعاناة الفكرية والإحساس بالتهميش وتجاهل الكفاءة وتركيز النظم علي أهل الثقة ومزايا الأقربين وذلك يعني ببساطة أن لكل جيل محنته ولكل عصر رموزه ولكل عهد طقوسه.
رابعا: لقد استمعت إلي عشرات من شباب الثورة من كافة التنظيمات والائتلافات والجماعات وأعترف بنقائهم جميعا وأغفر لهم حدة العبارة أحيانا بمنطق حماس الشباب المتدفق ولهيب الثورة المستعر ولكنني أري أن بعضا منه في حاجة إلي مزيد من التثقيف الذاتي والمعرفة العميقة لأن الإنترنت وتوابعه هي جهاز معلومات ولكنه ليس صانع ثقافة ولا ملهم رؤية.
خامسا: إن إفساح المجال أمام القيادات الشابة والأجيال الجديدة لا يعني أن الأجيال التي سبقتهم يجب أن تختفي بين يوم وليلة وان تتواري عن الأنظار فورا لأن ذلك معناه انقطاع التواصل وانعدام الخبرة التي يجب أن تنتقل من جيل إلي جيل كالشعلة المضيئة التي لا تخبو أبدا.
.. إنني أريد أن أسجل بإيجاز أن الشباب الذي صنع الثورة يجب أن يمضي بها مؤمنا بأن مصر الدولة لا تتعارض مع مصر الثورة وأن الثانية لن تكون بديلا للأولي في بلد عجوز علم الدنيا وصنع الحضارة وألهم البشرية, كما أنني أدعو مخلصا إلي ضرورة الفهم الحقيقي لمعني الثورة علي نظام معين والتمرد علي أوضاع فاسدة وأن ندرك أيضا معني التغيير والإصلاح مؤمنين في الوقت ذاته بأن لكل حدث كبير ضحاياه ولكل تحول ضخم نتائجه ولكنني أدعو في الوقت ذاته إلي ثورة لا تعرف الشطط بحيث تصبح حالة انتقالية وليست فقط عملية انتقامية ولا يغيب عن ذهننا أبدا أن مصر عانت كثيرا ودفعت ثمنا غاليا وآن الأوان لكي تعبر عن شخصيتها الحقيقية بما فيها من وطنية معتدلة ووسطية متزنة تدفع بالإصلاح دفعا في كافة نواحي الحياة المصرية وشئونها العصرية لأن مصر هي وريثة الحضارات وأرض الثقافات وصانعة الثورات!
جريدة الأهرام
3 مايو 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/521/2011/5/2/4/76043.aspx