عندما يتحدث المصريون عن البورصة المالية ــ صعودها وهبوطها وفقا لما نمر به من أحداث فإن ذهني يتجه مباشرة إلي بورصة أخري هيبورصة البشر التي تتأرجح أيضا صعودا وهبوطا وفقا لما يمر بنا من أحداث, ولقد كتبت منذ عدة شهور مقالا تحت عنوان بورصة البشر عالجت فيه علاقة المصري بالسلطة.
وكيف أن المقعد له بريق فرعوني باهر يبدو الفرد أحيانا أضخم من المؤسسة التي يديرها وتلك ظاهرة فريدة تستحق الدراسة والتأمل.
ولقد حاولت في الأسابيع الأخيرة أن أتابع الاهتزاز الشديد في بورصة البشر المصرية حيث الصعود السريع للبعض والسقوط المفاجيء للبعض الآخر, واكتشفت أن السلطة دائما هي العامل المشترك في ذلك الصعود والهبوط, كما أن البورصة البشرية ــ مثل البورصة المالية ـــ تتعرض لمفاجآت يصعب التنبؤ بها وباهتزازات لايمكن توقعها, ولعل تداعيات ثورة الخامس والعشرين من يناير1102 هي زلزال عنيف اهتزت له البورصتان المالية والبشرية في وقت واحد, وأترك الأولي للمتخصصين في علم الاقتصاد وإدارة الشركات وتدوير الأوراق المالية, وأتجه بالتحليل إلي البورصة الثانية حيث تهاوت رؤوس الحكام وسقطت عروش السلطة وانتقل مسئولون كبار إلي غياهب السجون وصعد آخرون من الشارع إلي القمة تأكيدا لإرادة الأمة وانصياعا لمطالب شبابها, إن ماجري يذكرني بما قالهمكرم عبيد باشا ذات يوم من أربعينيات القرن الماضي(الحمد لله الذي جعلني علي الخزائن وزيرا بعد أن كنت في بطن الأرض أسيرا) مشيرا بذلك لخروجه من المعتقل إلي مقعد الوزارة إبان صراعه الشهير مع زعيم الوفد مصطفي النحاس باشا, ولقد رأيت الله بعيني في الأسابيع الأخيرة عشرات المرات ورددت مع القرآن الكريم الآية الفلسفية الرائعة( يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء) وشعرت بالأسي لمسئولين كانوا يتصورون أنهم قد حازوا الدنيا وجمعوا السلطة والثروة في يد واحدة بل وغازلوا الآخرة أيضا وهما وبهتانا متصورين أن خداع الله والأمة والشعب في وقت واحد هو أعلي درجات الذكاء البشري لمن يحلقون في سماوات عشق الذات ولايرون من الدنيا إلا أنفسهم, ولعلني أتذكر أنني كتبت منذ أكثر من اثنتي عشرة عاما مقالا بعنوان( مصر عام0502) سخرت فيه بوضوح كامل من ذلك النمط من الشخصيات وتوقعت حركة الجماهير إلي الأمام وتصورت مجتمعا يقوده الشباب في ظل دولة عصرية وإدارة حديثة وكلما رجعت إلي ما كتبت ازداد ضميري ارتياحا خصوصا وأن آخر مقال لي قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير كان يحمل في كل سطوره إرهاصات الثورة ونذر النهاية لما كنا عليه.
وقد احتكمت طوال حياتي ــ برغم وجودي في الإطار العام للنظام السياسي السابق ــ إلي ما يمليه علي ضميري فشيعت جنازة المرشد العام الراحل مأمون الهضيبي وزرت المستشار المحترم هشام البسطويسي في أوج صدام الدولة مع مواقفه الداعية إلي استقلال القضاء, كما رفضت الذهاب إلي إسرائيل برغم كل الضغوط التي مورست علي واضطررت للسفر بعيدا إلي جنيف حتي لا أفعل شيئا لا أرضاه, تلك كانت قناعاتي في العقود الأخيرة مؤمنا بأن رضاء الإنسان عن ذاته أغلي بكثير من رضاء الغير عنه لذلك فإنني عند الحديث عن البورصة البشرية أرصد الملاحظات التالية:
أولا: فوجئت بإحدي القنوات الفضائية تذيع لقاء لي هذا الأسبوع( مارس1102) مع الصحفي الراحل محمود فوزي في برنامجه الشهير( حوار علي نار هادئة) وكان ذلك بتاريخ فبراير7002 أي منذ أكثر من أربع سنوات والذي أسعدني ورفع رأسي أن الحديث الذي أذيع بغير ترتيب مسبق وعلي غير علم مني قد بدا متطابقا تماما مع مواقفي بعد ثورة52 يناير, وقد توالت علي الاتصالات الهاتفية يومها تحيي رؤيتي المبكرة وثبات مبادئي قبل الثورة بأربع سنوات وبعد اندلاعها أيضا, ورأوا في ذلك ردا مفحما علي الافتراءات والادعاءات والأكاذيب التي يحاول بها البعض اغتيال التاريخ الحقيقي وتطويعه لحساب تصفيات معروفة الهدف وأجندات مغرضة لاتخفي علي أحد حتي إن أحد خصومي تناولني بأسلوب جارح منذ أيام متجاوزا حدود انتخابات5002 ليطعن في قدراتي أمام منصب قومي إقليمي مطروح علي الساحة! لقد أردت أن أشير إلي ذلك لأؤكد أننا إذا لم نكن ملائكة نعيش في يوتوبيا دانتي إلا أننا لسنا شياطين نعيش في جحيم الشر.
ثانيا: إننا نعترف أن مشكلات جديدة قد نجمت عن تداعيات الزلزال السياسي المروع الذي هز أركان بعض الدول العربية, فالتطورات بطبيعتها قد تنهي مشكلات معينة ولكنها تأتينا بنوع جديد من المشكلات, فلكل زلزال توابعه, ولاشك أن انهيار بعض المؤسسات وتهاوي نظمها الإدارية والدخول في حالة من الفوضي الوقتية هي أمور طبيعية شهدتها نظم كثيرة في فترات التحول الحاد من نظام إلي نظام, ولعلنا نتذكر الآن نموذج بعض دول أوروبا الشرقية عند سقوط الستار الحديدي وانهيار النظام الشيوعي مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي وكيف انهارت مؤسساتها, وانقسمت شعوبها بين موالين للنظام القديم ومبشرين بالنظام الجديد, ونحن ندرك كم من الوقت استغرق الصراع في هذا السياق, لذلك فإننا لانندهش أبدا مما تعانيه بعض الدول في هذه المرحلة ومنها مصر حيث تسود عملية واسعةلتصفية حسابات, كذلك فإن الأمر لايخلو من ادعاء بطولات في جو يختلط فيه الحابل بالنابل حتي لم نعد ندرك جيدا ألوان الطيف السياسي بالوضوح المطلوب, فالثورة عملية انتقال نوعي ليس بالضرورة أن يستفيد منها من بدأها بل قد يقطف ثمارها من لم يشاركوا فيها وحتي لم يتحمسوا لها.
ثالثا: إن ما رأيناه حتي الآن في ساحات الثورة المصرية إنما هو تعبير عن فئات من المجتمع وشرائح منه ليست بالضرورة هي الأشد فقرا أو الأكثر عددا, فنحن أمام احتجاجات موظفين والمطالب الفئوية, ولكننا لم نشهد بعد خروج ملايين الفقراء في زحف محتمل من العشوائيات ليدقوا أبواب المجتمع بدافع الحاجة والفقر واستثمارا لأجواء الفوضي الضاربة بجذورها في بعض المناطق علي نحو يعود بنا إلي الوراء, ولعل مقدمات التوتر الطائفي هي إنذار مبكر في هذا السياق لذلك فإننا لانتصور أن الثورة قد انتهت بل نظن فقط أن الفصل الأول منها قد بدأ يكتمل, ولكن فصولا أخري لم تبدأ بعد, إنني أحذر ــ وبقلق لا أخفيه ــ من الموجة الثالثة للثورة المصرية ما لم نتدارك الأمر, ونتمكن من تقديم بدائل سياسية للواقع الحالي حتي نزرع الأمل لدي طبقات محرومة وقوي اجتماعية متعطشة للتغيير خصوصا إذا كنا نواجه شبه انهيار إداري فيبعض الوزارات والمؤسسات في غيبة الأمن المطعون في كبريائة علي النحوالذي شعرنا به جميعا.
رابعا: يجب أن نعترف بأن الفترة التي تمر بها مصر تحمل في ثناياها مخاطر لاتغيب عن الوعي الوطني الذي يدرك أنه عقب التحولات الكبري والثورات الشعبية فإن الأمور تبدو ملتبسة أحيانا بل ولاتخلو من غموض في أحيان أخري لأننا أمام عملية ترتيب جديد للورق أشبه ما تكون بما نطلق عليه فيالدارجة المصرية( إعادة تفنيط الكوتشينة) وهنا يبحث الكثيرون عن أدوار جديدة كما يتهرب الكثيرون من مسئوليات سابقة, ونجد أنفسنا أمام مشهد عبثي يبتعد كثيرا عن روح الثورة, ويقترب من مفهوم الفوضي التي نتمني أن تكون خلاقة وليست هدامة, فالذين يحطمون القديم بكل خطاياه يجب أن يتجهوا إلي بناء الجديد بكل مزاياه.
خامسا: لا أظن أننا مجتمع من الملائكة أو جزء منالمدينة الفاضلة فنحن بشر نأكل الطعام ونمشي في الأسواق, ونحب ونكره, ونعيش ونموت, فينا الخير والشر معا, فلتكن أحكامنا عادلة ونظراتنا موضوعية حتي ندرك بوضوح أن دوافع الثورة الشعبية المصرية تكمن أساسا في غياب العدل الاجتماعي إلي جانب تهميش معظم قطاعات المجتمع مع شيوع الفساد, وتدني مستوي معيشة معظم المصريين لذلك فإننا ندعو للتفكير بطريقة إيجابية ترفض الماضي وتتطلع إلي المستقبل, تستمد من الحاضر رؤية غد أفضل لنا ولأجيال لاتزال في ضمير الغيب.
...هذه رؤيتنا وهي ليست نظرة ملائكية في عالم يوجد فيه شياطين أيضا, ولكنها محاولة لتتبع بورصة البشر والتأمل فيما حدث والتطلع إلي ماهو قادم.
جريدة الأهرام
22 مارس 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/479/2011/3/21/4/68756.aspx