تشدني كلمة النهضة دائما وتدق لدي أجراسا معينة, فهي تأخذني مباشرة إلي عصر النهضة الأوروبية وأيضا إلي المسار النهضوي الذي سلكه رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر ومن جاءوا بعده, وإذا كنا نحتفي بثورة الشعب المصري التي قادها شبابه الواعد علي نحو غير مسبوق فإنالنهضة.
هي القرين التلقائي لمفهوم الثورة حتي لاتكون الدماء التي أهدرت قد ذهبت هباء, فالشهداء يطلون علينا من علياء لكي يقولوا لنا تلك أرواحنا بذلناها من أجل نهضة الوطن وصحوته من رقدته التي وصلت به إلي حالة من شيخوخة العقل والقلب والترهل السياسي والاقتصادي بل والثقافي أيضا.
لذلك فإننا نتذكر مع القارئ كل الكتابات التي كانت تتحدث عن مصر في العقود الأخيرة مشيرة إلي مقومات الانطلاق لديها والتحليق في سماوات التحديث والعصرنة, ويتساءل أصحابها كيف لبلد لديه النيل العظيم ويطل علي بحران مفتوحان ولديه أراض خصبة وصحراء شاسعة وموارد بشرية هائلة ومصادر طبيعية كبيرة كيف لبلد كهذا أن تكون أوضاعه علي ما كانت عليه؟! إن المخرجات لاتتفق أبدا مع المدخلات ويبدو أن الفارق بينهما يمكن تلخيصه في الفسادوالبيروقراطية وضعف الانتماء الوطني وقلة الحماس لمشروع مجتمعي واضح, إنني أظن أننا قد أعطينا انطباعا رائعا للعالم كله من خلال ما وصله عن الثورة الشعبية المصرية الفريدة التي قدمت نموذجا جديدا في تاريخ الثورات جغرافيا وتاريخيا فلا نكاد نجد لها نظيرا في دول العالم الأخري, كما أنها تتميز عن ثورات الشعب المصري ضد الحملة الفرنسية وضد الاحتلال البريطاني وضد العرش العلوي, لأن ثورة52 يناير ثورة شعبية مصرية اتسمت بالتلقائية والعفوية والإصرار علي تحقيق الهدف, ويكفي أن نتأمل الرسالة الالكترونية التي انتشرت بشكل واسع وهي تحمل مقتطفات من أقوال زعماء العالم حول تلك الثورة الفريدة,
كما أنني أسجل أيضا أن استخدام الثوار, خصوصا الشباب منهم للتقنيات الحديثة في عالم تكنولوجيا المعلومات قد أسهم هو الآخر في إعطاء هذه الثورة الشعبية طابعا عصريا يستهوي الأجيال الجديدة في عالم اليوم وأنا أريد لهذه الثورة أن تتحول من فوران إنساني لايخلو من العاطفة إلي قوة دفع بشري لاتبعد عن العقل, فنحن أمة البنائين تاريخيا, وقد قال لي ذات يوم عالم الجغرافيا الراحل د.سليمان حزين إن المصري يتمتع بذكاء اليدين لذلك شيد الأهرامات وبني الحضارات واستوعب الثقافات,
وقد حانت لحظة الاختبار عقب هذه الثورة لنتخلص من عيوب الماضي وأعبائه ونتجه بمنطق الكل في واحد لإقامة دولة عصرية بالمعني الحقيقي, تستوعب مايدور في الدنيا وتتفهم روح الدولة الحديثة التي تقوم علي دستور رصين ومتوازن يكون مكتوبا بلغة واحدة لاتعرف الترقيع ولاتحتاج إلي الحذف والإضافة من حين لآخر, فالدستور وثيقة سامية يجب أن ترقي فوق التغييرات الطارئة والأحداث العابرة حتي تتميز بدرجة عالية من الاستقرار والاستمرار والاحترام, كما أن دولة القانون هي الدولة الديمقراطية الحديثة بمعناها الكامل التي لايسقط فيها من الحساب فئات معينة ولايجري معها تهميش طوائف بذاتها, إنها دولة المواطنة الكاملة التي يدرك فيها كل فرد أنه سيد قدره ومصيره, كما أن احتكار الوطنية مثله كمثل احتكار السلطة بل واحتكار الثروة أيضا, فهذه كلها تعبيرات كريهة تشير إلي التعصب وعشق الذات وإنكار الآخر والعدوان المباشر علي المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية في وقت واحد.
إنني أتصور أن تقوم مصر بخطوات جادة وواسعة علي طريق الاستنارة وصحوة العقل وتحديث الفكر خصوصا أننا بلد يملك كفاءات عالية وقدرات متميزة, ويكفي أننا في غمار تلك الثورة وجدنا أنه قد اختلطت معها أصوات مشرفة من أمثال أحمد زويلومحمد البرادعي وفاروق الباز أي أنه لدي مصر رصيد بشري هائل معترف به عالميا ومقدر دوليا, لذلك فإنني أسمح لنفسي بأن أحدد بعض الملامح باختصار لرؤية المستقبل:
أولا: لقد أصبح لزاما علينا. وقد أهدرنا الكثير. توظيف أفضل الكفاءات المصرية في المواقع المهمة والمؤثرة بعيدا عن الشخصنة والدوافع الذاتية التي أهلكتنا وعصفت بكفاءات عالية وأطاحت بخبرات نادرة في العقود الماضية, وينبغي أن يحكمنا معيار واحد هو وقوف المصري أو المصرية علي أرض وطنية دون النظر لعقيدة دينية أو فكر أيديولوجي أو قناعات خاصة فقد جاء الوقت ــ ولو أنه متأخر ــ لكي يكون المصريون سواسية أمام القانون المطبق والفرص المتاحة والوظائف العامة, وما أكثر ما رأيت ورأي غيري عمليات متواصلة للعبث بأصحاب الفكر والرأي وتشويه ذوي الخبرة وتقديم أهل الثقة وذوي المحسوبية وأصحاب الحظوة تغليبا لحسابات شخصية وتحقيقا لمكاسب عائلية أو فئوية, لقد آن الأوان لأن تشهد مصر نقلة نوعية كبري في هذا السياق.
ثانيا: إنني أدرك صعوبة المرحلة التي نمر بها, فمعظمنا تعامل مع أنظمة سابقة ــ وأنا منهم ــ وبعضهم لم يكن راضيا عما يدور ولكن الخوف البشري ظاهرة إنسانية, خصوصا إذا كان الطرف الآخر هو الأقوي والأقدر علي التشويه والاغتيال المعنوي وحجب الحقوق عن أصحابها وتقديم نصف العقل علي كامله ومخاصمة الثقافة ومعاداة الفكر واعتماد الغيرة الإنسانية أداة تدفع إلي الإطاحة بالأكفأ وتلوث الأفضل وقد كتبت بهذا المعني مقالات عديدة في السنوات الماضية كان عنوان إحداها(الإطاحة بالكفاءات والعصف بالخبرات) ولكن المناخ العام لم يكن يقرأ جيدا وإذا قرأ لايستوعب وإذا استوعب فإنه ينكر علي نفسه فهم الحقيقة! فما أكثر ماضاع علي هذا الوطن من كفاءات وماهرب منه من خبرات وماجري خنقه بداخله من قدرات.
ثالثا: إن وضع رؤية شاملة تدعمها إرادة ثابتة وتقوم عليها أيد نظيفة هي مقوماتخارطة الطريق للوطن المصري الذي يعتبر أغني الأوطان إذ تجري سرقته وتجريف ثروته عبرآلاف السنين ولكنه يبدو صامدا في أحلك الظروف وأصعب الأوقات يكفكف دموع فقرائه ويواسي المقهورين في أرضه بحديث ممل عن التكافل الاجتماعي والعدالة الغائبة علي حساب ضرائب الأثرياء التي يجري حجبها, وأراضي الدولة التي جري ابتلاعها, والذين يعرفون الحقيقة يرقبون المشهد في يأس ومرارة وحسرة ويحلمون بيوم بدأت طلائعه بمهرجان الفجر الذي أشرقت شمسه في الخامس والعشرين من يناير1102, وقد يقول قائل إذا كنتم تتغنون بالثورة فأين كنتم قبلها؟!والواقع أننا كنا نري الفساد ونتحدث عنه ونتطلع إلي الإصلاح فنراه بطيئا لايكاد يشعر به أحد, وندرك حجم الفجوة الاجتماعية محذرين من فقراء العشوائيات وثورة الجياع منذرين بالزلزال القادم.
رابعا: إن التعليم الذي يقدم المادة المتاحة للبحث العلمي بل وللثقافة والإعلام أيضا هو بوابة العصر التي تدخل منها الشعوب في اتجاه المعرفة التي يوفرها القرن الحادي والعشرون, وأريد أن يتذكر الجميع أن الدور المصري قد تراجع وأن الأداء الوطني قد تخلف عندما تهاوي النظام التعليمي المصري وظل يترنح نتيجة اعتماد نظرة الكم علي حساب الكيف وازدواج المفاهيم بين المجانية المدعاة والتكلفة الحقيقية, فضلا عن تعدد نظم التعليم وتباين أساليبه داخل الوطن الواحد, لذلك فقد جاء الوقت للاعتراف بأن التعليم هو مصدر الإلهام الوطني والبوتقة التي تنصهر فيها الشخصية المصرية لكي تصنع مجتمعا متجانسا ودولة سوية, فالتعليم ــ كالخدمة العسكرية ــ لابد أن يقوم كلاهما علي المساواة المطلقة دون تمييز أو تهميش أو إقصاء.
خامسا: لقد قلنا كثيرا إن الإصلاح منظومة متكاملة فيه إرادة سياسية ورؤية علمية وتفكير موضوعي مع نظرة شاملة تتكامل فيها العناصر الاقتصادية والثقافية والاجتماعية, ويتم بها التوظيف الأمثل للسكان بتحويل الكم إلي كيف حتي تصبح الزيادة السكانية نعمة لانقمة, وليست تلك بدعة فقد سبقتنا إليها أمم كثيرة في مقدمتها الصين والهند.
... أيها السادة: إن كتالوج الإصلاح ليس معقدا ولاغامضا بل إنه سهل يسير ولكن المهم فيه أن تدرك الشعوب من أين تبدأ ثم لا تنتهي أبدا, فالوقوف في منتصف الطريق قد أضاع علينا الدخول إلي عصر النهضة المصرية عدة مرات عبر تاريخنا الحديث.
جريدة الأهرام
8 مارس 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/465/2011/3/7/4/66344.aspx