لا أظن أن تصريحا سياسيا تبدو قيمته الآن أكثر من تلك الكلمات التي عبرت بها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس عندما تحدثت عن الميلاد الجديد من أحشاء الفوضي الخلاقة، لقد قالت هذه العبارة منذ سنوات.
واستقبلناها بتفسيرات بسيطة وحسبنا أنها تعكس ظرفا معينا لا تتجاوزه، بينما أثبتت الأيام بعد ذلك وأظهرت أحداث2011 أن كوندليزا رايس كانت تقرأ من كتاب مفتوح وأن المسألة أكبر بكثير من ثورات شعوب عانت من الفساد والاستبداد وأبعد من ذلك الربيع العربي الذي زار المنطقة بعد طول احتجاب.. إننا نتذكر دائما أن ميلاد الكون ـ في أحدث التفسيرات ـ قد ولد من ذلك الانفجار العظيم حتي أنهم يقومون حاليا بتجارب علمية متعمقة في باطن الأرض تحت مدينة جنيف يدرسون ويبحثون في محاولة مضنية لاكتشاف سر الخليقة ولغز نشأة الكون، ونحن نقول ذلك الآن بمناسبة ما يحيط بنا علي المستويين المحلي والإقليمي من فوضي تثير القلق أحيانا وتبعث علي الألم أحيانا أخري إذ لم نتعود علي أن تكون للفوضي إيجابيات ولكنها عملية الميلاد الجديد التي أصبحت تحمل في طياتها مزايا لم تكن مفهومة من قبل، دعنا نبحث في هذا الإطار لعلنا نغوص في أعماق هذا التصور الجديد:
أولا: إن الثورات عملية تغيير جذري تعيد صياغة المجتمع وترتب من جديد طبقاته وفئاته ولذلك فإن منظومة العلاقات السياسية والاجتماعية تتغير تبعا لذلك بل إن ثقافة المجتمع تأخذ هي الأخري طريقها نحو التغيير ونكون بصدد شبكة جديدة من الأفكار والسياسات بل الشخوص أيضا، إن الثورة عملية تغيير هائل يعيد صياغة علاقات الإنتاج والعمل بل يتطرق إلي مراكز القوي في الدولة بشكل عاصف يغير من التركيبة القائمة ويسمح بتحولات لم تكن متاحة في الظروف الطبيعية، إن الثورة ظرف استثنائي لا يمكن إنكار وجوده أو الالتفاف حوله لأنها تقترن بحالة من الفوران العاطفي والانفعال الغاضب ضد أوضاع قديمة مطلوب تغييرها وظروف قائمة مطلوب القفز فوقها، إن الثورة تعيد لحمة النسيج الاجتماعي بمغزل جديد يعتمد علي مفهوم التعبئة الشاملة ويستند في كثير من الأحوال إلي منطق الشرعية الثورية حتي تتزايد بشكل واضح التظاهرات والاعتصامات والإضرابات وتبدو تلك الامور مألوفة في مناخ الثورة حيث تتزايد المطالب الفئوية وتتراجع قيمة القيادات ـ قديمة وجديدةـ أمام طوفان كاسح يغلي بقوة اندفاع الثورة ووقود شهدائها.
ثانيا: مثلما هو الزلزال الكبير الذي تأتي توابعه بتأثيرات قوية لا تقل في عنفها بل درجة حدتها أيضا عن الزلزال الكبير وإذا كان الناس يخرجون عندئذ من منازلهم سراعا ويهرعون إلي الشوارع عدوا فإن الثورة تحدث شيئا من ذلك وتدفع بالجماهير نحو الميادين الفسيحة والشوارع الواسعة ألم تقترن ثورة عرابي بميدان عابدين؟ وارتبطت ثورة عبد الناصر بميدان المنشية؟ وهاهي الثورة المصرية الشعبية الكبري تجد ملاذها الكبير في ميدان التحرير وسط العاصمة متحكمة بذلك في شرايين الحركة داخل مدينة ضخمة لا يقل عدد سكانها عن خمسة عشر مليونا ليلا وما يزيد علي ذلك نهارا! لذلك فإن الحديث عن حالة الفوضي لا يبدو حديثا مستوردا بل هو نموذج متكرر في أثناء الثورات وعقبها ولكن اللافت هو أن هذه الانتفاضات الكبري يأتي من رحمها نظم جديدة وهذا تأكيد لفكرة الفوضي الخلاقة، فإذا كانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة قد أشارت إليها في سياق الأحداث الدولية والتغييرات الإقليمية فإن الأمر ينسحب أيضا علي الأوضاع الداخلية.
ثالثا: هناك محظور ينبغي أن يتنبه إليه الثوار في كل الأقطار وهو أنه ليست كل فوضي خلاقة بالضرورة، فهناك نوع من الفوضي السوداء التي تهدم ولا تبني، تحطم ولا تشيد، تتفرغ للانتقام، ولا تسعي للبناء، تتصرف باندفاع وفقا لخيالات وأوهام ليست دائما صحيحة، ونحن هنا في المنطقة العربية التي عانت شعوبها من القهر والاستبداد ومن التدخل الأجنبي والفساد وندرك أن هناك محاولة لإعادة هيكلة دول الوطن العربي علي نحو يبدو شبيها باتفاقيات( سايكس بيكو) في مطلع القرن العشرين، إنها مرحلة تقترب من تلك التي أعقبت الحربين العالميتين الأولي والثانية في أوروبا والشرق الأدني حيث تمت زراعة إسرائيل شوكة في قلب العرب تمزق أحلامهم وتبدد آمالهم، إننا أمام تحولات واضحة وتغييرات جذرية تشير إلي أن عهدا جديدا يطل علي دولنا ونحن الأقدر علي توجيهه في الاتجاه الصحيح بدلا من المراوغة وإنكار الحقائق وتوزيع الاتهامات، وهنا ألفت النظر إلي أنه لا يبني الأوطان سوي أبنائها ولا يقيم نهضتها إلا شعوبها ولقد كنا دائما مدركين لهذه الحقيقة عندما خاض محمد علي معركة البناء الحديث للدولة العصرية في مصر منذ أكثر من قرنين من الزمان، ونتذكر دائما أن لهذا البلد هوية وسطية معتدلة لشعب متفتح علي كل الحضارات وكل الثقافات ولن تستطيع قوة ما مهما بلغ جبروتها ومهما استبدت بها نشوة الانتصار أن تقيم كيانا مختلفا يبتعد عن الميراث الحضاري الكبير للدولة المصرية مدركين أن العلاقة بين الدولة والثورة هي علاقة الأم بالابن لا يخرج عن إطارها ولا تتخلي هي عنه أيضا، من هنا فإنني أنبه إلي أن كيان الدولة المصرية بأمنها القومي ومصالحها العليا يسبق كل شيء والقائل بغير ذلك عبثي النزعة، فوضوي الرؤية، فاقد للوطنية.
.. إننا نؤمن أن أوضاع مصر قبل25 يناير2011 كانت تحتم قيام ثورة شعبية تطيح بنظام هرم وتفتح الأبواب أمام تداول السلطة وتحتوي القوي السياسية المختلفة بغير استبعاد أو إقصاء، ولقد كانت الأسابيع الأولي للثورة عرسا رائعا في التاريخ المصري الحديث كله ولكن بعد مرور عام كامل علي الثورة نقول إن الأمور يجب أن توضع في نصابها، فالفوضي الخلاقة ليست بالضرورة هي الطريق إلي النهضة والسبيل إلي الإصلاح بل لابد من ضوابط تنبع من ضمير المجتمع وتفكر في المصالح العليا للبلاد لأن الانسياق وراء ظاهرة الجماهير يحتاج إلي حسابات خاصة ودراسات دقيقة تعطي الاقتصاد القومي أولوية، وتدفع بعجلة الإنتاج وتجعل بناء الجديد متواكبا مع هدم القديم، فالفارق بين الثورة والهوجة ينبثق من فهم الظروف ودراسة المعطيات ثم ترتيب الأولويات.. هذه رؤيتنا أمام هذا الظرف التاريخي الفريد في دولة اشتغل شعبها بصناعة الحضارات واستيعاب الثقافات واحتواء الأفكار والفلسفات.
جريدة الاهرام
6 فبراير 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/801/2012/2/6/4/129625.aspx