جاء عام2011 صاخبا منذ بدايته, فبعد دقائق قليلة من ميلاده حدث التفجير الإجرامي في كنيسة القديسين في الإسكندرية وتتابعت الأحداث بعده مقلقة تنذر بأن الجزء الظاهر من كرة الجليد التي تطفو علي سطح الماء أقل بكثير مما خفي منها, وبعد ذلك بأيام قليلة جري الاستفتاء علي تقرير مصير جنوب السودان ليؤدي الي ميلاد الدولة193 في منظومة الأمم المتحدة ثم كانت أحداث تونس وسقوط النظام القمعي الذي كمم الأفواه وأمسك بقبضة قوية علي مقاليد الأمور لما يزيد علي ثلاث وعشرين سنة وهي كلها أمور يتأثر بها الاستقرار في المنطقة عموما لذلك فإنها تدعو الي مراجعة أمينة للحسابات ودراسة دقيقة للمواقف بشفافية وأمانة وتجرد, دعونا نرصد الملاحظات التالية:
أولا: إن المخاطر الخارجية مهما تفاقمت علي بلد معين إلا أن خطورتها لا تعادل القلاقل الداخلية فالأخيرة سريعة الانتشار شديدة العدوي لأنها تنبع من الجسد ذاته وتصيبه مباشرة, ولقد تعرضت مصر لضغوط خارجية في عصر الرئيس عبدالناصر نتيجة مواجهته الحادة مع قوي دولية وإقليمية في وقت واحد بينما, تزايدت الانتقادات الداخلية وظهرت إرهاصات التوتر في عصر الرئيس السادات أما الآن فالضغوط خارجية وداخلية في آن واحد إذ سوف تكون علي حدودنا الجنوبية مباشرة جمهورية إسلامية متشددة تليها جمهورية يتزايد فيها النفوذ الغربي والوجود الإسرائيلي بينما قد تتكون علي حدودنا الشمالية الشرقية إمارة إسلامية في غزة تحيط بها دولة عبرية تستهدف مصر دائما وتري فيها الجائزة الكبري مهما طال الانتظار, لذلك فإننا أمام وضع غير مسبوق يحتاج الي قرارات رشيدة تقاوم الفقر بقوة وتضرب علي الفساد بشدة وتحشد المصريين في اتجاه مستقبلهم الصحيح بالديمقراطية الكاملة والطهارة السياسية المطلوبة وهو أمر يدعونا الي مراجعة الكثير مما جري مؤخرا علي أرض الوطن.
ثانيا: إن الأغلبية الحزبية الطاغية هي مؤشر حسابي ناجح ولكنها أيضا مؤشر سياسي خطير لا يعكس صحة المجتمع ولا سلامة الحياة الحزبية فيه, فالأصل في الديمقراطية هو التوزان الضمني داخل المؤسسات النيابية دون طغيان الأغلبية أو عناد الأقلية, فالمجتمعات العصرية تعيش بالتوزان القائم علي القوانين الحديثة لصنع القرار السياسي الرشيد الذي تشارك فيه قوي المجتمع المختلفة بقدر حصة كل منها في الشارع السياسي, ولست أظن أن التفرد علامة صحية بقدر ماهي دليل علي خلل في النظام الحزبي القائم.
ثالثا: إن اختناق المعارضة السياسية في دولة مايؤدي الي احتمالات الانفجار غير المحسوب ويفتح أبواب التطاول والعنف بل والتمرد في النهاية, والدروس من تاريخ الأمم وواقع النظم تؤكد ذلك فلابد من توافق قرارات النظم مع خيارات الشعوب حتي تكون تمهيدا صالحا لسيناريوهات المستقبل فإذا وضعت الغطاء علي الإناء وفيه ماء يغلي قد يؤدي ذلك الي انفجاره إذا لم يكن هناك متنفس للبخار الصاعد, ولا يظن البعض أن المعارضة فيما تكتب أو تقول لا تحقق جزءا من ذاتها يؤدي الي درجة من الإشباع السياسي حتي وإن لم تكن له نتائجه الكامل.
رابعا: إن التطرف الديني هو المسئول ـ في رؤيتي علي الأقل ـ عن تقسيم السودان وشق صف حركة المقاومة الفلسطينية وإحداث اضطرابات وقلاقل علي امتداد خريطة العالم الإسلامي كله بما صنعه من إيقاظ للعداءات النائمة والحساسيات الكامنة فحرض علينا بالعنف والإرهاب حشودا ضخمة في العالم الغربي كله.. ألسنا نحن المرفوضين أمام التأشيرات؟ في المطارات؟ عند الاغتيالات؟ المذنبين عند حدوث الانفجارات؟ قولوا لي أين هذا من صحيح الإسلام؟ ذلك الدين العظيم الذي بهر الإنسانية في فجره وضحاه بما قدمه من روح للتسامح واحترام للآخر ورغبة في التعايش المشترك.
خامسا: إن إغفال إرادة الشعوب أو الاستهانة بمطالبها تشبه الي حد كبير عملية العوم ضد التيار لأنها تعني محاولة قهر الإرادة الشعبية وقمع الاتجاهات الإصلاحية وقديما قال شاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي.. ولابد للقيد أن ينكسر.
سادسا: إن مصر نسيج بشري يختلف عن سواه لأنها دولة متصلة بلا انقطاع علي امتداد آلاف السنين, لذلك فإنها بلد لا يتحمس للعنف ويسعي للتغيير المنظم خصوصا وأنها تملك أكبر حشد من الموارد البشرية في المنطقة والكفاءات القادرة علي طرح منظومة إصلاحية شاملة بشرط تمكينها من ذلك مع الأخذ في الاعتبار أن درجة الانصهار الاجتماعي في المجتمع المصري تكاد تكون الأعلي في المنطقة بأسرها وليعلم المسلمون في مصر أن المسيحيين فيها أو من نطلق عليهم الأقباط هم أهلنا الأصليون بمنطق التاريخ والميراث الإنساني, لذلك فإن اختلاف الديانة لا يستقيم مبررا أبدا للصدام مع من ينتمون الي قومية مصرية واحدة ألهمت الدنيا وشيدت الحضارة وصنعت التاريخ.
سابعا: إن العالم يتغير حولنا والدنيا تجري بسرعة أمامنا ولم يعد ممكنا ولا مقبولا أن نعيش في أطر مغلقة أو نتصور إمكانية الاستمرار خارج روح العصر, فالمفردات الجديدة تفرض نفسها بقوة علي الساحة السياسية والفكرية ابتداء من رعاية الأقليات وحماية حقوق الإنسان والاهتمام بالديمقراطية والتنمية البشرية ودفع عجلة المشاركة مع إعمال مبدأ المواطنة دون النظر للفوارق العرقية أو اللونية أو العقائدية أو الدينية.
ثامنا: إن التلازم بين التنمية والديمقراطية قضية محسومة وحتي الدول التي حققت معدلات عالية في النمو الاقتصادي الوطني دون ديمقراطية كاملة افتقدت تلقائيا لمفهوم العدالة الاجتماعية بحيث اقتصر العائد الجديد علي الشرائح العليا من المجتمع بينما ظل الفقر ينهش في أنحاء الوطن يغطيه فساد ناجم عن عملية الزواج غير الشرعي بين بعض رموز السلطة ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس المال, بل إنني أضيف الي ذلك أن المشهد السياسي كله يتأثر بقضية العدالة الاجتماعية والبعد الإنساني في توزيع عوائد التنمية علي نحو يخلق حالة من الاستقرار الطبقي ويحقق درجة عالية من السلام الاجتماعي.
تاسعا: إن المنطقة تموج حولنا باضطرابات لا تنتهي, فاليمن ـ علي سبيل المثال ـ بموقعه الجغرافي وأهميته الإستراتيجية الحساسة في منطقتي البحر الأحمر والخليج العربي يدخل مرحلة معقدة من المواجهة مع الإرهاب الدولي الذي يحاول أن يجعل من اليمن باكستان ثانية يرتع فيها تنظيم القاعدة متي شاء وكيفما يريد, كذلك فإن الأوضاع في الجزائر والأردن والمغرب لاتبدو في أفضل صورها فضلا عن جراح العراق وآلامه وغموض مستقبله, لذلك فإنني أدعي أن العالم العربي يعيش مرحلة ترقب وقلق تعكسه تلك الحالة المتمثلة في الدولة اللبنانية حيث يبدو الصدام متوقعا بين أطراف اللعبة السياسية بينما تحاول الحرب الأهلية أن تطل بوجهها الكئيب علي ذلك البلد العربي الرائع.
عاشرا: إن مشكلات المسيحيين العرب يجب أخذها بالجدية اللازمة والاحترام المطلوب لأنهم شركاء مباشرون في قضايا التغيير والتنمية داخل المجتمعات العربية المتطلعة الي الإصلاح الجذري والتطور الحقيقي بديلا عن السياسات الهلامية والشعارات الجوفاء والاستطراد وراء مظاهر الدولة الدينية علي حساب الأصول الفكرية للدولة المدنية الحديثة التي نتطلع إليها ونسعي نحوها.
هذه قراءة سريعة في ملفات طارئة بعضها داخلي ومعظمها خارجي ولكنها تؤكد في مجملها حالة الاستهداف الذي يطوق المنطقة ويبعث في أعصابها الحساسة ومفاصلها الهامة في محاولة لتعطيل التطور وضرب حركة الإصلاح في مقتل وتعويق عملية الانتقال السلمي للسلطة بما يتيح الفرصة أمام من يسرقون حركة النضال الوطني ويركبون موجات التغيير وهم من أشد أعدائه.. تلك هي معضلة العصر التي تطلب منا دائما اليقظة والانتباه لأن منظومة الإصلاح تقوم علي الرؤية الشاملة والإرادة الكاملة من أجل حياة أفضل لأجيالنا القادمة.
جريدة الأهرام
25 يناير 2011
http://www.ahram.org.eg/Archive/423/2011/1/25/4/60194.aspx