كتبنا من قبل عن ثقافة الصدق ولا نبتعد اليوم كثيرا حين نكتب عن ثقافة التجويد, فالذي نلاحظه الآن هو أن الأداءفي جميع نواحي الحياة ينقصه التجويد وأنا أعلم أن الكمال لله وحده ولكن الاهمال والتسيب والتراخي هي صفات شيطانية إذا لحقت بمجتمع معين شدته إلي الوراء بل ودفعته إلي أسفل.
وحين يتطلع المرء إلي الشوارع حولنا لابد أن يدرك أن الكثير مما يتم إنشاؤه وما يجري العمل فيه لا يتصف أبدا بالدقة والرونق اللازمين, وأنا أذكر الجميع في البداية بقول رسول الاسلام صلي الله عليه وسلم( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه), فالتجويد وصية إلهية وليس فقط حاجة حياتية, ونحن نلاحظ كذلك أن هناك محاولة دائمة للقفز فوق المراحل واستخدام الذكاء المصري للهروب من الإتقان والبعد عن المسئولية وإنهاء الأعمال دون الانجاز الكامل لها, لقد بحثت في قواميس اللغات الأجنبية عن مرادف واحد لكلمة( الفهلوة) فلم أجد لأنها تحتاج إلي جملة كاملة لتفسيرها فهي تعني التذاكي بخداع الغير وطمس الحقيقة أو هي القدرة علي الإيحاء بأن شيئا ما قد تم كما يجب, بينما لا يخلو الأمر من مسحة غش وهروب من المسئولية وأنا أظن أن( الفهلوة) كلمة لعينة تعكس جزءا مقيتا في الشخصية المصرية المعاصرة وقد عانينا من آثارها طويلا وأساءت إلي صورتنا أمام الغير كثيرا لأنها تمثل الجانب السلبي في الذكاء المصري المعروف, إنني أقول ذلك والألم يعتصرني حيث أري شعبا أنتمي إليه وفيه كل مقومات الفطنة والقدرة علي الفهم وتراكم الخبرة والسعي نحو توليد الفكرة بل واختراع الحل العبقري للمشكلة المعقدة بأبسط الطرق, ومع هذا فإن ذلك الشعب لم يقدر له حتي الآن أن يعيش حياة تتناسب مع هذه القدرات العالية ذلك لأنه يستغلها ـ للأسف ـ بغير تنظيم محكم أو برنامج ملزم أو رؤية واضحة وإنني إذ أكتب اليوم عن ثقافة التجويد فإنني استدعي وراءها ثقافة الصيانة وتلك قصة أخري سوف نأتي إليها في مرة قادمة, ودعني الآن أبسط أمام القاريء ما يتصل بمسألة التجويد من اعتبارات:
أولا: إن الكثيرين ينتقدونني لأنني شخصية نمكية حتي زوجتي وابنتي يتندرن دائما علي عشقي الشديد للنظام ورغبتي القاتلة في أن يكون كل شيء في مكانه الصحيح وحرصي الدائم علي الصيانة, وأنا أظن أن هذه مقومات موجودة لدي الكثيرين غيري لذلك تزداد معاناتهم وتتوتر أعصابهم ويشتد سخطهم وهم يرون الفضاء المصري حولهم يعج بكل أسباب الانفلات ومظاهر الفوضي الناجمة عن الزيادة المخيفة في عدد السكان والتراجع الواضح في مستوي سلوكيات الأفراد وضعف الشعور بالانتماء للوطن ونقص الاحساس بالقيم المدروسة والتقاليد العريقة, إننا أمام أجيال جديدة ليست لديها رؤية واضحة لمستقبل وطنها ولا حتي تصور كامل لمشروعها الشخصي وبالتالي فإنها تعيش في مناخ القلق وبيئة الاحباط فلم يعد لديها رغبة في الكمال أو دافع للتجويد بل إن الوصول السهل يبدو لهم براقا حتي ولو كانت الوسائل رخيصة والتجاوزات صارخة.
ثانيا: إن غياب الاتقان وضعف الضمير وانهيار المثل هي مجموعة من الأسباب التي تقف وراء اختفاء روح التجويد, فالمباني التي تنهار ورشح المياه علي حوائط العمارات في إشارة سخيفة إلي التسرب من الحمامات إلي جانب الحوادث الكارثية التي تقع والدماء التي تسيل علي الأسفلت كل يوم, هي كلها نتاج طبيعي لغياب الاحساس بضرورة اكتمال العمل وإجادته في أي مجال من مجالات حياتنا مع انعدام المراجعة لما هو لدينا واستخدام الأشياء في غير موضعها والتفريط في الخطوات الطبيعية للانجاز والشعور بالسعادة الوهمية من أن الشخص قد اقتنص فرصة بغير حق أو تجاوز خطوة لها أهمية ثم بلغ ما يريد, ولكن العائد في النهاية هو تراكم سلبي للأخطاء وإهدار للطاقات بحيث تكون المحصلة الأخيرة علينا في جوهرها ونهايتها وليست لنا كما تبدو من ظاهرها وبدايتها.
ثالثا: إن تدهور العملية التعليمية وتراجع سمعة التعليم المصري يعودان في جزء كبير منها إلي اختفاء ثقافة التجويد, إنني مازلت أتذكر أستاذي في الرياضيات في خمسينيات القرن الماضي عوض حنا وكيف كان يجلس مع طلابه بعد نهاية اليوم الدراسي لمراجعة المقرر بدون مقابل دافعه هو ضميره الوطني وحرصه علي تلاميذه ورغبته الحقيقية في تجويد عمله, وأتذكر أيضا أستاذي سيد البجاوي في المرحلة الثانوية وهو يدرس لنا تخصص الفيزياء ويكاد ينتحر صباح مساء من أجل طلابه ورغبته الشديدة في أن يصبحوا ذوي شأن في فرع تخصصه ولقد امتدت بي الأيام بعد ذلك لكي أكون في موقع مؤثر في ثمانينيات القرن الماضي سمح لي بأن أطلب مد خدمته بعد بلوغه السن القانونية ولقد اكتشفت أن ذلك قد تقرر بالفعل دون وسيط لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا فأين هؤلاء الشوامخ من محترفي الدروس الخصوصية والذين لا يؤدون واجبهم التعليمي ولا دورهم الأخلاقي أثناء اليوم الدراسي؟!
رابعا: لقد ورد في الأثر دعاء طيب يقول اللهم اجعل خير أيامنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها فلتكن لنا في هذه المقولة العظيمة أسوة نمضي بها علي طريق مختلف عن ذلك الذي نسلكه, إننا محتاجون إلي يقظة الضمير وصحوة العقل وتجويد العمل وإتقان الدور مع الاحساس العميق بالمسئولية واحترام المصلحة العامة والبعد عن الفردية واللامبالاة والتسيب وهي أمراض وفدت علينا في العقود الأخيرة.
خامسا: إنني لا أحلق في الخيال ولا أتحدث عن المستحيل ولكنني أطالب بنمط مختلف من التربية الجديدة التي توجد المواطن العصري لأن الياباني ليس أكثر ذكاء والألماني ليس أكثر فطنة ولكنهما بالتأكيد أكثر تنظيما للعمل وتجويدا في الانتاج واحتراما للوقت وحرصا علي المصلحة العامة, إنني أظن أن غياب التجويد هو صورة من صور الفساد بشكله المتخفي وصورته المقنعة لأن النتيجة واحدة في النهاية وهي تبديد الموارد وإهدار الكفاءات وحرمان الوطن من مفهوم فريق العمل الذي يقفز بمستوي المؤسسة التي يعمل بها خطوات إلي الأمام, بل إن الفردية والشللية تسهمان معا في الانصراف عن الاتقان وإعمال المحسوبية والواسطة بديلا للكفاءة والخبرة, والأمر في ظني لا يدعو إلي اليأس فهناك شعوب كثيرة تعاني هذه الأمراض ولكن بدرجات متفاوتة والمطلوب دائما هو أن تكون لدينا الإرادة في تجاوز حاضرنا الصعب والقدرة علي إحداث اختراقات ناجحة في المجالات المختلفة.
.. هذه ملاحظات موجزة أردت التأكد منها وبها علي أن المصري كريم العنصرين ـ قادر علي البناء السليم إذا أراد ومتمكن من التجويد اذا رغب فلديه إمكانات هائلة ومخزون تاريخي كبير وعمق حضاري عريق ولكنه ـ حتي الآن علي الأقل ـ لا يؤمن بأن التجويد في العمل والاتقان في الأداء يغلبان الذكاء الحاد مع الفوضي, وينتصران علي الفطنة بلا ضمير.. إن ثقافة التجويد كانت ولاتزال وسوف تبقي هاجسا يؤرق العقل المصري الذي لا توجد أية أسباب حقيقية للحيلولة دون اندفاعه إلي الأمام واقتحامه المستقبل بخطوات أفضل بكثير من تلك التي يخطوها, ليتنا كنا أقل ذكاء وأكثر اتقانا.. ليتنا كنا أقل فطنة وأكثر تنظيما.. ليتنا كنا أشد إدراكا بأن الشعوب يبنيها الجهد الحقيقي والفكر المنظم والرؤية الواضحة.
جريدة الأهرام
16 نوفمبر 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/353/2010/11/16/4/48761.aspx