عندما أصدر آدم سميث كتابه الشهير ثروة الأمم وقفت الإنسانية المتحضرة وقتها في انبهار أمام عناصر الإنتاج الأساسية, حيث برزت الأرض في المقدمة وظهر عنصر العمل ليكون هو العنصر التحويلي من الطبيعة الي الإنتاج, ومضي الاقتصاديون علي هذا الدرب لعدة قرون, ونحن نظن عن يقين أن الأرض المصرية هي المصدر الأساسي لتراكم الثروات والانتقال الطبقي المفاجيء في العقود الأخيرة, بل إننا إذا ذهبنا بعيدا الي مرحلة تشكيل مصر الحديثة وميلاد الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي فسوف نكتشف أن الحياة قد تشكلت وفقا لتوزيع الأراضي بدءا من المحاسيب( الشفالك والأبعاديات) وصولا الي اللائحة السعيدية التي جعلت من ذلك الخديوي البدين صديقا للفلاح ومدركا لأهمية العنصر المصري في التعامل مع الأرض الطيبة, والآن نمضي سويا في ارتياد طريق الملكية وارتباطه بمجري النهر والعوامل المشتركة بين أقاليم مصر وبقاعها داخل الحزام الصحراوي الذي يحيط بالوادي والدلتا ونوجز ذلك فيما يلي:
أولا: تمثل الأرض بالنسبة للمصري أغلي ما يملك وأهم ما يحوز, ويبدو ارتباطه بها ارتباطا أزليا وتتحدد قيمته الشخصية ووجاهته الاجتماعية بقدر ما لديه من تراب مصر وطينها النيلي الخالد, ولقد حدثتنا مأثوراتنا الشعبية بما يؤكد ذلك, ولعلنا نتذكر ما حدث عندما( باع عواد أرضه) وذلك لأن الرقعة الزراعية في مصر محدودة, والذي يقرأ أو يشاهد رائعة عبد الرحمن الشرقاوي الأرض رواية أو فيلما يدرك مدي تعلق المصري بأرضه سواء كان إقطاعيا مستبدا أو فلاحا أجيرا, إنها أرض مصر أغلي بقاع الدنيا وأقدمها, تراكمت فوقها رقائق الحقب التاريخية وترسب في جوفها ماء النيل الوافد عليها من عمق القارة الأم, ولقد أدي ضيق الرقعة المأهولة بالسكان وتركز المصريين فيما لا يزيد علي عشرة في المائة من مساحتها الي اعتبار الأرض الطيبة هي بحق مصدر القيمة ومكون الثروة في كل العصور.
ثانيا: إن الموقع الجغرافي الحاكم في مصر وإطلالها علي ساحلي بحرين مفتوحين واحتلال الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا( عبقرية المكان كما رآها حمدان الي جانب اعتدال الطقس نسبيا قد أدت كلها الي ارتفاع قيمة الأرض المصرية وندرتها نسبيا بالنسبة لعدد السكان, وهنا يجب أن نتذكر أن التعريف التقليدي لعلم الاقتصاد كان أنه هو علم الندرة وهو أمر يؤكد علميا أن الأرض في مصر ـ زراعية أو عقارية ـ هي عصب الاقتصاد القومي وركيزة الاستثمار والوعاء الأفضل لحفظ قيمة النقود في بلد تتهاوي فيه قيمة العملة وتتراجع القوة الشرائية لها.
ثالثا: إن نهر النيل عنصر محوري في تحديد قيمة الأرض المصرية بصعيده الصامد ودلتاه التي تفتح ذراعيها بفرعي دمياط ورشيد مرحبة بالحضارات الوافدة وتستقبل الرؤي الجديدة وتستلهم الحياة من عالمها المحيط بها, ولقد أدي ذلك بدوره الي الارتفاع المتزايد لقيمة الأرض المصرية والتكالب علي ملكيتها والاستفادة من المعدلات الربحية المذهلة نتيجة المضاربة عليها وتبريدها في أجواء مصر والإبقاء عليها سنوات ثم إعادة بيعها وتحقيق أرباح فلكية من ورائها, وهكذا تكونت ثروات طائلة في مصر خصوصا عبر العقود الأخيرة وأصبحنا أمام نمط جديد من الريع السهل والعائد المضمون دون مجهود حقيقي أو عمل منتج! وأناعندما أتحدث عن المضاربات علي الأرض لا أشير لمن بني عليها فذلك استثمار عقاري مشروع أو من أقام عليها المصانع والوحدات المنتجة والكيانات المطلوبة فتلك ظواهر طبيعية للعملية الاقتصادية السليمة ولكنني أقصد تحديدا أولئك الذين استحوذوا علي الأرض بمئات الأفدنة في ظروف انتهازية أو نتيجة اتصالات معينة ثم باعوها بعد ذلك بالمتر المربع! إنها واحدة من المضحكات المبكيات علي أرض مصر, ولقد أثبتت الإحصائيات الحديثة أن تراكم الثروة من المضاربة علي الأراضي تفوق أرباح تجارة السلاح والمخدرات والمجوهرات! بل وتتصدر أسباب الثراء الفاحش والمفاجيء لطبقة جديدة حققت كل شيء دون أن فعل أي شيء!
رابعا: إن الأرض المصرية هي عنصر جاذب للسكان, ويؤكد التوزيع الديموغرافي لهم فوق الخريطة المصرية أنهم يتركزون حيث توجد الزراعة والأرض الخصبة والمياه المتاحة, ويتجنب المصري غالبا الصحاري البعيدة والتضاريس الوعرة والبعد عن مصادر المياه, لذلك كان اقتحام المصري للأرض خارج الدلتا والوادي محدودا, كما أنه يؤثر المناطق المزدحمة والتجمعات العمرانية الآهلة علي استصلاح الصحراء أو التعامل طويل المدي في إعداد الأرض للزراعة, وبرغم أن توزيع الأرض الجديدة كان هو الآخر واحدا من مشكلات الواقع الاقتصادي المصري المعاصر إلا أن ذلك اقتصر علي الأرض المنتجة أو ذات الميزات النسبية أو الوقوع علي أطراف المدن ووجود احتمالات كبيرة للدخول داخل كردوناتها, وذلك يفسر الي حد كبير مشكلة العشوائيات بل أقول مأساة العشوائيات بما يجب أن تؤدي إليه من وخز دائم في ضمير الأمة ووجدان الشعب.
خامسا: إن متابعة منحني الملكية الزراعية في مصر وتوزيع الأرض فيه يرتبط ارتباطا وثيقا عبر تاريخنا كله بحيازة الثروة أو امتلاكها, فالأرض في مصر كانت ولا تزال وسوف تظل هي وعاء القيمة ومصدر الثروة وهوي المصري في كل زمان ومكان, ولا شك أن الأمر ينسحب علي أهمية الأرض في الدول الأخري أيضا لأن حجم اليابسة يتقلص, كما أن اكتشاف أراض جديدة قد توقف تقريبا! فلقد انقضي عصر الكشوف الجغرافية وأصبحنا أمام مساحة محدودة لبشرية يزداد عددها بالمليارات كل بضع سنوات, ولقد تأثرت كثيرا بكتاب الأرض والفلاح للمفكر المصري الراحل إبراهيم عامر, وكذلك فقد أفدت أيضا من الكتاب القيم للأستاذ الدكتور علي بركات حول تاريخ الملكية الزراعية في مصر وكذلك الإسهامات المتميزة في هذا السياق للراحل الدكتور رؤوف عباس والدكتور عاصم الدسوقي وآمنت دائما بأن الأرض أعز ما نملك وأغلي ما نحوز عبر الأجيال كلها.
.. هذه محاور أنطلق منها لكي أشير الي ما جري في السنوات الأخيرة في بر مصر وعمليات السطو المنتظم علي الأرض الزراعية في ظل مشكلة عالمية ومحلية في توفير الغذاء, وكيف أدت بنا الي حالة من الفزع دارت بعض حلقاتها حول المدن الجديدة وبعض نماذج الاستثمار العقاري معترفا بأن حركة الإعمار قد تفوقت بشكل ملحوظ مع الزيادة الفلكية في عدد السكان والتي تجاوزت كل التوقعات! لذلك فإنني أدق ناقوس الخطر بكل موضوعية وشفافية مطالبا بإلقاء نظرة جديدة علي الأرض المصرية, ولعلي أقدم نموذجا لعشوائية التفكير من خلال تلك المليارات التي أنفقت علي الاستثمار العقاري في مصايف الساحل الشمالي وقراه بدون تخطيط مسبق أو نظرة شاملة تقوم علي رؤية عصرية وفكر حديث كان يمكن أن تجعل من ذلك الساحل بحق ريفيرا مصرية تناطح تلك الفرنسية أو الإيطالية أو حتي الشواطيء التونسية, لقد فرطنا ـ أيها السادة ـ في أعز ما نملك ولم ندرك مبكرا أن الرؤية البعيدة والخطة المتكاملة والخيال الواسع هم مصدر استلهام المستقبل وتكريم الأرض المصرية العريقة إذا جاز تعبير التكريم هنا, فالأرض هي الأم والحضن والعرض والوطن, وعندما أستخدم تعبير الأمة المصرية فإنني لا أبتدع جديدا إذ إنه رغم أن مصر هي جزء من أمتها العربية وقارتها الإفريقية وعالمها المعاصر ولكن لديها من مقوماتها الذاتية وتاريخها الطويل ما يجعل تعبير الأمة المصرية لائقا بها مرتبطا بتراثها, ولم يخطيء الزعيم سعد زغلول ورفاقه حينما جعلوا الأمة المصرية مظلتهم الأولي في فترة من أزهي فترات الوطنية المصرية في العصر الحديث, والأمة تقوم علي الأرض ولكن أي أرض, إنها تلك التي باركها الأنبياء واندحر علي حدودها الغزاة وتساقط من فوق عروشها الطغاة.. إنها مصر كنانة الله.
جريدة الأهرام
19 أكتوبر 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/324/2010/10/19/4/44230.aspx