مازلت أتذكر عندما كنت في صحبة الرئيس محمد حسني مبارك إلي القمة الإسلامية في الكويت عام1987 إيذانا بعودة الكنانة إلي مستقرها الإسلامي في أحضان منظمته.
يومها وقف أمير الكويت الراحل وألقي خطاب ترحيب بمصر ورئيسها, أتذكر أنه قال مقدمته بالنص تقريبا( جعل الله عطاء مصر كنيلها الخالد موصولا لامقطوعا أبدا).
عندما أعجبتني تلك العبارة الاستهلالية من الأمير الراحل بدأت أفكر فيمن شاركوا في صياغة ذلك الخطاب التاريخي الرائع, وعلمت أن الدكتور عبدالعزيز كامل القطب الإخواني والوزير الأسبق وأستاذ الجغرافيا الشهير هو صائغ هذه العبارة الرائعة التي نزلت علينا يومها في تلك العاصمة الشقيقة بردا وسلاما, منذ ذلك اليوم وتلك العبارة لاتفارق ذهني خصوصا ذلك الربط الحضاري والإنساني بين عطاء أم الدنيا لقارتها الإفريقية وأمتها الإسلامية ووطنها العربي في جانب, وبين جريان نيلها مخترقا صعيدها العظيم حتي تفتح الدلتا ذراعيها ترحيبا بحضارات الدنيا وثقافات العالم, وإذا كان هيرودوت قد قال إن مصر هبة النيل فإنني أضيف إلي عبارته كما أن مصر أيضا هي حامية ذلك النهر, ولقد قصدت من هذه المقدمة الإنسانية أن أضع القاريء في الأجواء النفسية والبيئة الثقافية لما نطلق عليه حاليا ملف الأزمة بين دول حوض النيل, وأستأذن القاريء مباشرة في طرح الملاحظات الآتية:
أولا: إن النيل بالنسبة لمصر ليس مجرد نهر يجري أو مياه تتدفق, ولكنه تراث ثقافي ضخم وتراكم حضاري كبير, ومنظومة من التقاليد والقيم والأفكار والعادات, إنني أتذكر أن جدتي أم أبي كانت عندما تريد أن تحدد ضخامة شيء ما تقول إنه مثل الدنيا التي يرويها النيل فقد كان عالم هذه السيدة الريفية البسيطة مرتبطا بمجري النهر ودول الحوض وكأن خريطة الدنيا لم تتسع لغيره! إن عيد وفاء النيل ومقياس النيل وفيضان النيل وعروس النيل بل وتحويل مجري نهر النيل كلها عبارات رمزية لشيء ارتبطت به الأرض المصرية منذ فجر التاريخ ومازلت أتذكر تربة القرية في شهر أغسطس من كل عام عندما تبدو مبللة بطمي بني اللون يشير إلي زمن الفيضان السنوي الذي كنا نعرفه قبل بناء السد العالي, فارتبط النيل في أذهاننا ببيئة معينة ومناخ محدد ومظاهر للحياة جعلت من الفيضان توقيتا سنويا يشير إلي تجدد الروح أو الميلاد الجديد, فحتي مأكولات وقت الفيضان بأسماكه النيلية المعروفة خصوصا عند ملتقي النهر بالبحر الأبيض كانت كلها جزءا مهما من التكوين النفسي لطفولة الأجيال المصرية المتعاقبة.
ثانيا: إن التقويم المصري القديم ـ الذي يتطابق إلي حد كبير مع الشهور القبطية حاليا ـ قد ارتبط هو الآخر بجريان النهر ومنسوب مياهه, فأجندة الفلاح المصري ويوميات الزراعة منذ العصور السحيقة مرتبطة هي الأخري بمواقيت النهر وحساباته وكرمه وسخائه أو شحه وجفافه, والتاريخ يذكر أن السنوات العجاف في التاريخ المصري كله قد ارتبطت بانخفاض منسوب النيل وقلة الوارد من مياهه, كما كان موسم بذر الحبوب وحصاد الزرع وانتعاش الحياة اليومية للفلاح المصري الذي أدي إلي احترافه منذ فجر التاريخ واحدة من أقدم المهن علي الأرض وهي الزراعة وبذلك ارتبط دولاب الحياة المصرية كاملا بالنهر الخالد.
ثالثا: إن ميلاد الدولة المركزية في مصر القديمة قد ارتبط هو الآخر بشئون النهر وتوزيع مياه الري فيه وضبط مواقيت الزراعة, فالدولة المصرية القديمة القوية والمعروفة بالمركزية الشديدة مدينة في عوامل صلابتها وتماسكها لنهر النيل بالدرجة الأولي, لذلك أفاض في وصفه المؤرخون وتغني به الشعراء وازدهرت حوله الفنون, وعندما غني عبدالوهاب قائلا النيل نجاشي.. كان يشير إلي امبراطور الحبشة أهم دول المنبع وأكثرها أهمية حتي اليوم.
رابعا: إذا قمنا بقفزة كبيرة عبر التاريخ وانتقلنا إلي مايسمي بأزمة النهر الحالية والحوار الدائر بين دول الحوض فإننا نقول صراحة إن من الأخطاء الحقيقية للتعامل مع هذه الأزمة التركيز فقط علي الجوانب الفنية, فالقضية أكبر من ذلك وأشمل, إنها قضية سياسية تنموية بالدرجة الأولي وليست مجرد حصص مياه يجري توزيعها أو أرقام يتم تداولها, بل هي في النهاية اتفاقيات مرعية يشعر فيها كل الأطراف بحد أدني يرضيه من عدالة التوزيع وعوامل التنمية, فلقد وجد الأشقاء الأفارقة من يهمس في آذانهم أن العرب قد استخرجوا النفط من باطن الأرض لكي يكونوا أثرياء القرن العشرين وأنتم أيها الأفارقة تهبط عليكم الأمطار من السماء, وقد جاء الوقت لكي تكونوا أثرياء القرن الحادي والعشرين! إذ أن الحاجة للمياه لاتقل عن الحاجة إلي النفط, فالمياه والنفط كلاهما منحة من الطبيعة حان الوقت لأن يتساوي عائدهما, بل وأضاف هؤلاء المغرضون قائلين إن تسعير المياه حق ممكن لغير دول الحوض ونحن مشترون جاهزون لها! بينما الأهداف لدي هؤلاء الذين يوسوسون في العقل الإفريقي الطيب والفقير هي أهداف إستراتيجية وأمنية وسياسية بالدرجة الأولي, ولقد فطنت الدولة المصرية إلي ذلك مؤخرا وانتقل الملف إلي جهات سيادية عليا بإشراف رئيس البلاد شخصيا لأن الاتصالات العلوية الهادئة هي الأفضل وليست المباحثات الفنية هي الطريق الوحيد لإقناع كل الأطراف مع احترامنا الشديد لاسم كبير مثل الدكتور محمود أبوزيد الرئيس الشرفي للمجلس العالمي للمياه وأحد أبرز الخبراء الدوليين في هذا المجال, مع تقديرنا أيضا للجهد المخلص للوزير الحالي إلا أن المشكلة في ظني لاتكمن في كمية المياه المتاحة لدول الحوض ولكن تكمن في الشعور الدفين بالفوارق التنموية والتكنولوجية بين دول جنوب الحوض ودول شماله, واضعين في الاعتبار أن الهدر في مياه النيل يزيد عشرات الأضعاف علي المستخدم منه ولكن تلك الدول الفقيرة تري الأمطار تهطل علي هضابها صباح مساء وهم يعانون في الوقت ذاته مجاعة الغذاء ونقص الكهرباء وجميع مظاهر التخلف التي لاتخطئها العين, ولقد شهدت شخصيا في زيارتي الأخيرة عام2009 للدولة الأثيوبية مظاهر الفقر الشائع برغم جهود الحكومة هناك للخروج من مأزق التخلف القاتل.
خامسا: لقد لاحظت في زيارة لمدينة جنيف في يوليو2010 للمشاركة. ممثلا لجامعة الدول العربية. في المؤتمر الدولي لرؤساء البرلمانات, حيث التقيت هناك برئيس البرلمان الإثيوبي الذي درس في القاهرة وعمل بها لسنوات في حياته الوظيفية, لاحظت أن روح التحفظ التي قابلني بها في زيارتي لإثيوبيا في العام الماضي قد اختفت وأقبل علي مهللا ومحتضنا فأدركت مدي سعادة بلاده بحجم الاستثمارات المصرية التي بدأت تتدفق عليهم والمعونة الفنية التي تسعي إليهم فقد اكتشفوا أن مصر قد أدركت أخيرا أن ملف مياه النهر تنموي اقتصادي وليس فنيا أو حسابيا فقط.
إنني أقول صراحة إن عملية الهرولة كل عدة سنوات نحو دول جنوب الحوض هي عملية انتهازية مكشوفة وهي تغري تلك الدول بالاتجاه نحو الابتزاز أكثر مما تدفعها نحن التعاون, لأنها تبدو مواقف موسمية أيضا مثلما هي المياه التي تهطل علي هضبة الحبشة.
.. هذه ملاحظات أردت بها ومنها أن أؤكد مايذهب إليه خبراء النهر من أن القضية تنموية دائمة وتعاون دولي مستمر دون تهويل أو تهوين, فالخطر ليس كما صورته بعض الأقلام المصرية لأننا نعيش في عالم تحكمه اتفاقيات دولية والتزامات تعاقدية كما أن حقوق دول المجري والمصب هي نفس حقوق دول المنبع والمسار, لذلك فإن نهر النيل يجري منذ الأزل ولن يتوقف بإذن الله أبدا.
جريدة الأهرام
24 أغسطس 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/268/2010/8/24/4/35464.aspx