تكاد' السودان' أن تكون أهم دولة لمصر علي الإطلاق, ليس فقط بسبب الجوار الجغرافي ولا مجري النيل الذي يمر عبر أراضيها وحده ولا بالوشائج العميقة التي صنعتها العوامل التاريخية والجغرافية والبشرية.
ولكن ربما لسبب آخر بدأ يطفو علي السطح في العقود الأخيرة وأعني به ذلك الحجم الكثيف من الضغوط والمخططات الداخلية والخارجية التي تستهدف أكبر دول القارة الإفريقية مساحة والتي ربما تصبح أكثرها ثروة, وتبدو خطورة الموقف من أن معظم ما يتعرض له' السودان' ينطوي تلقائيا علي نوع من التهديد لـ'مصر' ومحاولة تطويقها جنوبا, والأمر يحتاج ـ والحال كذلك ـ إلي دراسة متأنية تضع النقاط علي الحروف وتجلي قدرا كبيرا من الغموض الذي يحيط بمستقبل ذلك البلد العربي الإفريقي الشقيق, دعنا الآن نرصد بعض الملاحظات التي تمثل عناصر البيئة السياسية الحاضنة للتطورات المتوقعة علي أرض' السودان' الذي ينتظر أحداثا جسام في الشهور المقبلة:
أولا: إن حدود الدول الإفريقية كما تركها الاستعمار تمثل حدا أدني لما يتحتم الحفاظ عليه, ولقد اعترفت' منظمة الوحدة الأفريقية' قبل ميلاد' الاتحاد الأفريقي' بالحدود القائمة في القارة رغم أن معظمها تحدد بإرادة المستعمر الأجنبي, و'السودان' تحديدا بلد الأعراق المختلفة والأصول المتعددة اختلطت علي أرضها الدماء العربية والإفريقية وامتزج الإسلام والمسيحية بمجموعات بشرية لا دينية أيضا, وكنا نتصور أو نتوهم أن تجربة التعايش المشترك بين هذا الخليط الثري والمزيج المتعدد يمكن أن تصنع دولة متماسكة مثلما هو الأمر بالنسبة لدولة مثل' الهند' علي سبيل المثال, ولكن للأسف فإن التوجهات الفكرية والمنطلقات العقائدية والاختلافات السياسية قد دفعت بـ'السودان' في اتجاه آخر حتي أصبح تقسيمه مطروحا وانفصال أجزاء منه واردا, فبرغم كل الجهود المخلصة والأصوات العاقلة إلا أن الأمر بدأ يتجاوز ذلك حيث ارتفعت حدة الجماعات الانفصالية مع قرب الاستفتاء علي نحو غير مسبوق, ولعلنا نتذكر أن الزعيم الجنوبي الراحل' جون جارنج' كانت له مطالبه في إطار الدولة السودانية الواحدة ولم يكن الانفصال خياره الوحيد, ولكنه مضي في حادث طائرة غامض يوحي بأن كل شيء يبدو مدبرا.
ثانيا: إن محاولة تمزيق خريطة' السودان' ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب, فالسودان مستهدف حتي من قبل استقلاله ولكن الظروف السياسية في' السودان' والمعتقدات الفكرية والأطروحات الثقافية قد هيأت في مجملها مناخا معاديا لسلامة' السودان' ووحدته الإقليمية, وهي أمور تسبب القلق تلقائيا لجيران الشمال بل وغيرهم في المنطقة.
ثالثا: لقد اختارت' مصر' ومنذ عدة عقود التوقف عن التدخل في الشأن السوداني والاحترام المطلق للشرعية مهما كلفها ذلك من ثمن, وقد التزمت' مصر' بهذا المبدأ سعيا نحو استقرار' السودان' وتخفيفا لحدة الضغط علي القوي السودانية المختلفة, ولم يكن الأمر سهلا فالسودان هو بلد الشعراء والفنانين والعلماء بل والجماعات الصوفية أيضا, ولكن' مصر' أدركت أن جزءا من الحساسيات التاريخية الموروثة يمكن أن يختفي من خلال الإحساس المشترك بالندية الكاملة والاحترام المتبادل والسيادة المرعية من الجانبين.
رابعا: لقد طرأت علي الساحة السياسية في' السودان' عوامل جديدة تتمثل في تراجع الأحزاب التقليدية وقرب تواري الزعامات الدينية بحيث أصبح الشأن السوداني محتاجا للغة جديدة وتفكير مختلف ولكن ذلك لن يمنع من ظهور مشكلات مركبة وأزمات متعددة خرجت من الإرث التاريخي إلي الواقع المعقد, ومما زاد الأمر خطورة اتجاه المشكلات السودانية نحو التدويل بصورة لم تكن معهودة من قبل وهو ما أغري قوي أجنبية طامعة في أن تدس أنفها في الشأن السوداني في وقت لم يعد فيه للدور المصري خصوصا ولا الدور العربي عموما ثقلا مؤثرا علي مجريات الأمور هناك.
خامسا: لقد كانت مشكلة' دارفور' ولا تزال هي الضربة القاصمة لوحدة' السودان' واستقراره لأنها قدمت مبررا جديدا يدفع الجنوبيين نحو الانفصال, وعندما نبه الكثيرون الحكومة في' الخرطوم' مع بدايات تلك الأزمة الخطيرة كان الرد هو أن النزاع بين قبائل الرعي والزراعة أمر معتاد سنويا سرعان ما ينتهي, كأنما نسي الأشقاء في' الخرطوم' أن الأطماع تحيط بهم وأن المخططات تسعي إليهم, وأنا أظن أن مشكلة' دارفور' قد جري التجهيز لها حتي تكون' الهدية المسمومة' لحكم الجبهة الإسلامية في العاصمة السودانية.
سادسا: إن شعار اقتسام السلطة والثروة هو شعار خادع لأنه يعني تلقائيا تكريس مفهوم الانفصال, وهو شعار ظاهره العدالة ولكن جوهره ينطوي علي الاتجاه نحو تفتيت الدولة السودانية وتمزيق أوصالها وأنا مازلت لا أري مبررا للحديث عن اختلافات عرقية في' السودان' فأطياف اللون موجودة في معظم شعوب الدنيا, كما أن الحديث عن المواجهة بين العروبة والإفريقية هو حديث مصطنع فقد اختلطت الدماء منذ قرون وامتزجت روح السودان في هوية مشتركة شكلت شخصيته الواحدة.
سابعا: إن تقسيم' السودان' لن يكون نهاية المطاف ولا الحل لمشكلاته بل إنه قد يكون بداية نزيف جديد تخرج منه صراعات طويلة, إذ أن في شمال' السودان' عدة ملايين من الجنوبيين يعيشون في' العاصمة المثلثة' وحولها كما أن الجنوب يضم مئات الألوف من أبناء الشمال في وقت تظل فيه مشكلة' دارفور' سيفا مسلطا علي رقبة الحكومة المركزية والدولة السودانية تجر عليها دعاوي المحكمة الجنائية وأطماع القوي الأجنبية بل وفلول الجماعات التبشيرية, كما أن الدولة العبرية لا تبدو بعيدة عما جري ويجري لأنها تسعي إلي موضع قدم في' السودان' يمكنها من تطويق' مصر' أكبر الدول العربية وأشدها خطرا علي' إسرائيل' في الحرب والسلم إذا ما استقرت الأمور وعادت الروح إلي الجسد العربي السقيم!
.. إنني أريد أن أقول صراحة ودون مواربة أننا كعرب لم نقدم لـ'جنوب السودان' العوامل الجاذبة لبقائه جزءا من كيان عربي كبير فلقد أذهلني أن أري في زيارة للجنوب منذ سنوات أن الوجود المصري في مدينة' ملكال' هو مسجد' فاروق الأول'! وأن الوجود العربي في مدينة' جوبا' هو مستشفي' الصباح' الذي أقامته دولة الكويت! ثم بدأنا نسرع الخطي الآن نحو الجنوب لإصلاح ما أفسده الدهر أملا في انتصار خيار الوحدة وتراجع الدعاوي الانفصالية, وإذا كنت أوجه هذا النقد الذاتي للجانبين العربي والمصري فإنني أخص أشقاءنا في' الخرطوم' بقول صريح يتمثل في شعوري أن حرصهم علي وحدة' السودان' قائم ولكنه لا يرقي إلي خطورة مسئولية مستقبل هذا البلد الإفريقي الكبير, بل إن استغراق حكومة' الخرطوم' خلال العقدين الماضيين في قضايا حزبية وتفسيرات عقائدية وسعي نحو إضافة اللون الديني للحياة السياسية قد أدي إلي اتخاذ ذلك كله تكأة لأصحاب النزعات الانفصالية والترويج لتقسيم الدولة السودانية حتي لم تعد الوحدة هي الخيار الجاذب في ظل المخاوف من' الدولة الدينية', فضلا عن غرام النظام السوداني أحيانا بفتح جبهات عديدة في وقت واحد بل والبحث عن مشكلات هم في غني عنها في وقت تشير فيه كل الدلائل إلي أن' السودان' يربض علي مخزون من ثروات هائلة يجب أن يستمتع بها الشعب السوداني كله, فهو شعب مثقف بفطرته ديمقراطي بطبيعته مستنير بأجياله المتعاقبة ومسيس حتي النخاع بسبب استقلاله في الرأي وعشقه للحرية, وإذا انفصل الجنوب فلن تكون له دولة قوية مستقرة فالنزاعات في داخله لا تقل عنها مع خارجه, أما الشمال فقد يسعي إلي أحضان أشقائه العرب في لهفة يعوض بها معاناة الهوية ويمضي معها بعيدا عن المخططات الأجنبية..قلبي معك أيها' السودان' العظيم في عام الحسم الذي لا نريد فيه انفصالا للعري ولكن وحدة متماسكة لدولة ديمقراطية تقوم علي التعددية وفهم الآخر وقبول الغير.
جريدة الأهرام
10 أغسطس 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/254/2010/8/10/4/33353.aspx