عدت من زيارة إلي' لندن' تلك المدينة التي شاءت ظروف حياتي أن أرتبط بها دبلوماسيا شابا وطالبا للدكتوراه ثم زائرا بشكل منتظم يوجد في تلك العاصمة التي تبدو لي وكأنها عاصمة شرق أوسطية.
من فرط اهتمام دوائرها بذلك الإقليم ووجود أكبر عدد من الخبراء في شؤونه متفوقة بذلك علي معظم الدول الغربية بما فيها' الولايات المتحدة الأمريكية'.
لذلك كان طبيعيا أن أرتبط فكريا وثقافيا بتلك المدينة التي عرفت العرب وعرفوها فـ'بريطانيا' هي التي دفعت إلينا بمعظم المشروعات السياسية في تاريخنا الحديث وليس أهمها إنشاء' جامعة الدول العربية' ولا آخرها مساعدة سلطات الانتداب البريطاني في قيام دولة' إسرائيل'.. إنها' بريطانيا' دولة وعد' بلفور' و'لورنس العرب' والجنرال' جلوب' و'مونتوجمري العلمين', إنها باختصار شريك تاريخي فرض نفسه علينا رغم النقاط السوداء بدءا من مأساة' دنشواي' عام1906 وصولا إلي المشاركة في جريمة' العدوان الثلاثي' المسماة بـ'حرب السويس' عام1956, لهذه الأسباب مجتمعة فإنني عندما أذهب إلي' لندن' أقوم بفتح عيوني وآذاني وعقلي وقلبي أيضا للاستماع إلي الآخر والحديث إليه والتنقل بين كم هائل من المعلومات الدولية والإقليمية التي تبدو أمامي في حاجة إلي تحليل, ولقد أقام بعض الأصدقاء تكريما لي غذاء عمل في مطعم جديد مواجه مباشرة لمبني البرلمان العتيق وحضره سفير' مصر' في' لندن' ووزير الدولة البريطاني الحالي هوجر سواير وهو مسئول عن مكتب شمال' إيرلندا' أيضا, بالإضافة إلي السيد' ريتشارد أوتواي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني والسيد موريس بولون عضو مجلس اللورادت ومعهم السيدة لورا هيتشنجز مديرة مجلس الشرق الأوسط التابع لحزب المحافظين والتي سوف تبدأ عملها ابتداء من الشهر القادم مستشارة لشئون' الشرق الأوسط' لدي الأمير' أندرو' ابن ملكة' بريطانيا', والحقيقة أن هذه المجموعة قد سعت إلي هذا اللقاء بإعداد وترتيب من صديق مصري هو السيد' سمير تكلا' الذي كان مسئولا عن القصر السلطاني في' عمان' لسنوات طويلة إلي جانب ذلك الحاكم العربي المتوازن المستنير' قابوس بن سعيد', ولقد حدث سوء فهم في موعد اللقاء علي مائدة الغداء, حيث وصلت إليهم متأخرا لأنني كنت أستعد للاستماع إلي محاضرة في مجلس العموم البريطاني, ولكن ظروف هذه الدعوة فرضت علي أن أغادر قاعة المحاضرة فورا إلي مائدة الغداء التي تحلقت حولها تلك النخبة من البرلمانيين والمسئولين في المملكة المتحدة, ولقد دار بيننا حوار طويل أنا أتحدث وهم يسألون ثم أنا أتساءل وهم يجيبون, والآن دعني ألخص في النقاط التالية أهم ما دار حوله الحديث بحضور سفيرنا اللامع' حاتم سيف النصر' الذي عمل سفيرا في العاصمتين الفرنسية والبريطانية علي التوالي وهو أمر لم يحدث في الخارجية المصرية إلا مرة واحدة من قبل للسفير الراحل الشامخ في تاريخنا الدبلوماسي والسياسي السيد' محمد حافظ إسماعيل' الذي كان في وضع مشابه ولكن بطريقة عكسية حيث بدأ' بلندن' وانتهي' بباريس', أعود مرة أخري لأوجز النقاط التالية:
أولا: لقد طرحت علي المجموعة بوضوح موقف' مصر' من مسألة' غزة' وكيف أن' القاهرة' تدفع فاتورة الانقسام الفلسطيني والاختلاف العربي والاستقطاب الإقليمي والغطرسة الإسرائيلية في آن واحد! وأوضحت بشكل مباشر أنه يعز علي المصريين الذين ينتمون إلي بلد التضحيات الكبري من أجل القضية الفلسطينية أن يكون ذلك العائد الذي يتلقونه عربيا وإقليميا من حجم الانتقادات الظالمة هو اختزال القضية الفلسطينية كلها في مسألة' معبر رفح' الذي كان مفتوحا عام2009 ـ لمن لايعلم ـ149 يوما, والآن لم يغلق منذ حادث مذبحة المياه الدولية التي ارتكبتها' إسرائيل' ضد نشطاء السلام الذين كانوا يسعون لرفع الحصار الظالم عن' غزة' التي تمني السياسي والعسكري الإسرائيلي الراحل' إسحاق رابين' أن يستيقظ من نومه ذات صباح لكي يبلغه معاونوه بأن' غزة' كلها قد غرقت في البحر! فـ'إسرائيل' تري فيها عبئا أمنيا وسياسيا لا تقدر علي مواصلة دفع ثمنه, ولعل ذلك يفسر انسحابها الأحادي منها منذ عدة سنوات لأن الفاتورة السياسية والعسكرية باهظة بسبب الاكتظاظ السكاني ووجود حركة' حماس' كتجسيد كبير للمقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي المستمر, وأضفت إلي ذلك أن خريطة' سيناء' مقدسة في الوجدان المصري والضمير الوطني منذ فجر التاريخ, معترفا أن مسألة' غزة' ليست هما فلسطينيا فحسب, ولكنها أيضا هاجس مصري تحملناه عبر العقود الست الأخيرة.
ثانيا: لقد تدخل السفير المصري مكملا وشارحا لجهود' القاهرة' ودور الدبلوماسية المصرية في المصالحة الفلسطينية والسعي نحو السلام العادل والدائم لواحد من أكثر صراعات الدنيا تعقيدا وصعوبة وهو الصراع' العربي ـ الإسرائيلي', وكان من الطبيعي أن يتطرق الحديث إلي الوضع السياسي الداخلي في' مصر' باعتباره ـ كما عبروا عن ذلك صراحة ـ هو المؤشر الحاكم في استقرار' الشرق الأوسط' كله, فأسهبت في شرح الظرف الداخلي للحالة المصرية مؤكدا أنني لا أعيش في الوهم ولا أدعي أن الأمور كلها وردية, ولكنني أتابع في الوقت ذاته مسيرة الإصلاح معترفا أن' مصر' كغيرها من دول المنطقة تعاني من الفساد المالي والإداري الذي يكاد يطاول الحياة السياسية أيضا وأن لدينا تطرفا دينيا نعاني من نتائجه في محاولة إخلاله بالشخصية الوسطية لمصر والهوية الوطنية لأكبر دولة عربية, ثم أضفت أن' مصر' تمر بمرحلة تحول كبير يبدو جوهرها إيجابيا علي المدي الطويل وإن بدا لنا سلبيا علي المدي القصير.
ثالثا: أشهد أن الأصدقاء البريطانيين كانوا علي مستوي رفيع من الفهم لطبيعة الحالة المصرية علي نحو أدهشني كثيرا, فهم يناقشون القضايا بدءا من مستقبل الحكم في' مصر' وصولا إلي' قتيل الإسكندرية' الذي لم تجف دماؤه بعد, لقد كان ذلك طبيعيا من ساسة بريطانيين يعرفون' الشرق الأوسط' عن قرب ويرصدون تطور الأوضاع فيه عن كثب, ويعرفون قدر الدولة المصرية في استقرار المنطقة وتوجه دورها نحو المستقبل لأن' مصر' دولة معروفة باحترامها لمسئولياتها الدولية والتزاماتها الإقليمية فضلا عن أن لديها أكبر جيوش المنطقة وأنشط جهاز دبلوماسي فيها.
رابعا: تحدث الأصدقاء البريطانيون عن الدور الأوروبي في' الشرق الأوسط' ردا علي انتقادي لضعفه وتبعيته لـ'واشنطون' رغم أنه يمكن أن يلعب دورا سياسيا نشطا ولا يتوقف عند حدود المانح الأول للشعب الفلسطيني اقتصاديا لأنه يتطلع أيضا إلي الدور الأوروبي سياسيا, فالاحتلال الإسرائيلي مستمر وجرائمه لا تتوقف والدعم الأمريكي يتزايد وخيبة أملنا في ساكن' البيت الأبيض' المنتمي من حيث الأصول والنشأة للإسلام والقارة الأفريقية تبدو بغير حدود!
هذه ملاحظات سريعة للقاء ثري في عاصمة الامبراطورية التي كانت لاتغرب عنها الشمس, ثم أصبحت الآن حليفا أمريكيا وشريكا أوروبيا ولكن تأثيره محدود علي' الشرق الأوسط' في الحالتين, لأن الشمس غابت عن الامبراطورية كما أن دورها التاريخي في المنطقة يؤكد أن معظم مشكلاتنا كانت أيضا صناعة بريطانية!
جريدة الأهرام
27 يوليو 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/240/2010/7/27/4/31267.aspx