ليست دوافعي صادرة عن شوفينية أحادية أو تعصب وطني أحمق, إنما تصدر عن استقراء موضوعي للتاريخ وفهم عميق للواقع وتطلع شديد نحو المستقبل.
إنها مصر التي انطلقت منها شمس التوحيد وذكرتها الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث, إنها مصر التي تكسرت علي نصالها أطماع الغزاة وأوهام البغاة وأحلام الطغاة, إنني أقول ذلك وأنا أري حولي محاولات يائسة لخنق الروح المصرية وطمس هوية الكنانة مع الحديث المتكرر عن تراجع دورها, والإيحاء الدائم بتردي مكانتها, بينما قراءة تاريخ الأمم وتطور الشعوب يوحي دائما بموجات صعود وهبوط ولكن الأدوار لاتختفي والشمس لا تغيب, لقد كانت أدوات الدور المصري هي التعليم والثقافة والتنوير مدعومة بالتاريخ الناصع لبطولات الجيش المصري, والآن قد تتغير أدوات الدور أو بعضها ولكن تبقي مصر أبدا شامخة تقدم النموذج لغيرها في المنطقة وتدفع بأدوات حديثة لدورها الحيوي المتجدد, وأنا أؤكد هنا ـ في ظل المناخ العام المشبع بالإحباط والبيئة التي تنضح بالقلق والاحتقان والتوتر ـ أنني لن أمل من الحديث عن قضية الدور المصري الإقليمي بمعناه الحقيقي وليس بمرجعية تاريخية تشير إلي حقبة بذاتها, وسوف أطرح عددا من المحاور لاستكمال هذا التصور:
أولا: إن الدور الإقليمي لمصر لايعني الدخول في مغامرات أو إقحام الدولة عسكريا وسياسيا في مشكلات لاتخصها, حتي ولو كان ذلك بدواعي التطرف القومي أو الاستغراق في مسئوليات إقليمية علي حساب المصلحة الوطنية, أقول ذلك لأن البعض يتصور أن قضية الدور المصري تعني تلقائيا فتوحات محمد علي أو حروب عبد الناصر, فالمرجعية التاريخية في الذهن المصري تشير دائما عند الحديث عن مسألة الدور الإقليمي إلي الخروج الحتمي إلي ما وراء الحدود والتورط في مشكلات تستنزف الاقتصاد المصري وقد تنال من الأمن الوطني ذاته, ويدافع المتحفظون علي قضية الدور دائما بأن الأمر قد يجرنا إلي مواقف وسياسات لاتخدم بالضرورة البناء الداخلي أو تدعيم قوة الدولة اقتصاديا وعسكريا, ونحن نتفق معهم إذا كان الدور المصري يؤدي إلي ذلك, أما إذا كنا نقصد به الوجود جد السياسي القوي والدبلوماسي الفاعل علي الساحة الدولية فإن الأمر يختلف لأن مصر ليست بلدا صغيرا أو هامشيا إنها دولة مركزية محورية مطالبة دائما باتخاذ قرارات مصيرية.
ثانيا: إنني أتذكر أنه غداة غزو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين للكويت في2 أغسطس عام1990 أن أتصل بي سفير الهند في القاهرة يطلب وبإلحاح شديد معرفة الموقف المصري بوضوح لأن دولته قد قررت ـ وهي أكبر دول جنوب وغرب آسيا ـ أن تحدد موقفها علي ضوء الموقف المصري فقط احتراما منها لدور مصر الإقليمي وتقديرا لمكانتها الدولية, وهذا يعني ببساطة أنه حتي إذا حاولنا أحيانا التملص من مسئوليات الدور فإنها تظل تلاحقنا مهما تكن الملابسات والأسباب, ولعلي أذكر الجميع أن اختيار أوباما لمنبر جامعة القاهرة ليخاطب منه العالمين العربي والإسلامي هو في حد ذاته تأكيد تلقائي لأهمية الدور المصري بل إن مصر إذا غابت عن محفل عربي أو إقليمي فإنها تبدو دائما هي ذلك الحاضر الغائب, إنني أؤكد مرة أخري أن مصر دولة غير قابلة للعزلة بحكم الجغرافيا, وغير قابلة للتجاهل بمنطق التاريخ وغير مستعدة للتنازل بتأثير المبادئ.
ثالثا: إننا عندما ننظر للخريطة السياسية للشرق الأوسط حاليا ندرك أن مصر ـ رغم كل الحديث المكرر عن تراجع دورها ـ مازالت ملء السمع والبصر, فهي قادرة علي الإمساك بدورها في أي لحظة, لأنني لا أتصور بديلا لها فلا تركيا ولا إيران ولاغيرهما يمكن أن يكون تعويضا لغياب الدور المصري مهما تكن المواقف والمصاعب والتحديات, والذين عملوا في خارج مصر ومثلوها في البعثات الدبلوماسية أو المحافل الدولية يدركون قيمة كلمة مصر ورنينها اللافت في كل مكان, فأينما وليت وجهك تجد للدور المصري مكانا ومكانة, فهي الدولة العربية المركزية المحورية وهي الدولة الإسلامية الرائدة والقائدة وهي الدولة البحر متوسطية التي ارتبطت ثقافيا ببحيرة الحضارات الأوروبية الآسيوية الإفريقية وهي بالنسبة لقاراتها الأم هي تلك الدولة التي حملت معاول التعمير ومشاعل التنوير وظلت لسنوات طويلة تحنو علي دول القارة التي تواجه أصعب الظروف وأعتي المشكلات, وفوق هذا وقبله فمصر دولة ذات مسئوليات دولية والتزامات عالمية أثبتت للجميع درجة عالية من المصداقية والانضواء تحت مظلة المجتمع الدولي الذي يسعي إلي السلام ويتجه نحو الرفاهية.
رابعا: إن أدوات الدور المصري تختلف كما قلنا من عصر إلي آخر ولكنها تقوم في كل الأحوال علي الفهم الوطني لطبيعة ذلك الدور واستغلال الميزة النسبية في الشخصية المصرية من أجل تحقيق الأهداف القومية والغايات الإقليمية, ولقد استمعت منذ شهور إلي وزير الدفاع الأمريكي وهو يتحدث من إحدي الفضائيات ـ غير المتعاطفة مع مصر ـ فإذا به يقول نصا( ويبقي الجيش المصري هو أقدم جيوش المنطقة وأكبرها وأكثرها مهنية), وأستطيع أن أقول هنا أنني قد استمتعت في تلك الليلة بنوم عميق بعد سماع هذه العبارة في إحدي أمسيات صيف عام2008
خامسا: إن مناخ الإحباط الذي يراد له أن يحطم الكبرياء المصرية وأن ينال من ثقة المصريين في أنفسهم يجب ألا يتجاوز حدوده, فلو أن لك ابنا تعتز به ولكنك من قبيل حفزه علي النجاح أصبحت تكرر أمامه قولك إنك فاشل إنك فاسد إنك بلا مستقبل, أستطيع إن أؤكد لك هنا أن ذلك الابن سوف يصبح فاشلا وفاسدا وبلا مستقبل!! فرحمة بمصر, فالكنانة حافلة بالايجابيات وبالطاقات البشرية الهائلة والعقليات المتميزة, أقول ذلك برغم شيوع الفساد في بعض مناحي حياتنا وسيطرة التطرف علي جوانب في مجتمعنا, فأنا لا أدعي أن الأوضاع وردية ولكنني لا أقبل أن أصف كل شيء علي أرض الوطن بأوصاف سلبية فذلك افتراء علي الحقيقة وعدوان علي الحاضر ومصادرة علي المستقبل.
هذه رؤية للدور المصري الذي نريده خادما للأهداف الوطنية متماشيا مع الشخصية المصرية مؤمنا بأن لكل جهد دولي أو إقليمي عائده, وأن الدور في النهاية ليس مجموعة شعارات أو مغامرات أو حتي مفاجآت, انه عمل مدروس يقوم علي حسابات صحيحة وتوقعات مؤكدة, فليست النوايا الحسنة وحدها هي طريق النجاح كما أن طريق الفشل أحيانا مفروش هو الآخر بمثل تلك النوايا الحسنة.
إن مصر دولة وسطية من أم إفريقية وأب عربي بعقلية بحر متوسطية ووجدان إسلامي, هكذا أرادها الله وسوف تبقي دائما حاضنة لتراثها الخالد, حامية لنيلها الذي لايتوقف, متمسكة بوحدتها الوطنية التي لاتنفصم, تنشر الضياء حولها لأنها شمس لاتغيب!
جريدة الأهرام
13 يوليو 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/226/2010/7/13/4/29168.aspx