يتسأل كثيرون من خبراء النظم السياسية سؤالا محيرا لا يخلو من خبث, فهو يدور حول مصداقية الانتخابات في الدول التي تحاول اللحاق بركب الديمقراطية بمعناها العصري.
ويعتقد عدد لا بأس به من أساتذة القانون الدستوري وخبراء العلوم السياسية أنه علي الرغم من أن نظام الانتخابات هو أفضل النظم ـ حتي الآن ـ للتعبير عن إرادة الشعوب فإنه لا يفرز بالضرورة العناصر الأفضل للعمل النيابي, إذ يمكن أن يتفوق شخص عادي علي أحد العلماء البارزين, وأن يكتسح ديماجوجي أهوج أفضل المثقفين, ولقد فطن كثير من المتخصصين لهذا الأمر فدعوا إلي المزج أحيانا بين الانتخاب والتعيين لإتاحة الفرصة أمام الكفاءات التي قد لا تكون لها شعبية في الشارع بطبقاته المتعددة وفئاته المختلفة, ورأي فريق آخر ضرورة اللجوء إلي القائمة الانتخابية بدلا من النظام الفردي حتي تكون هناك فرصة أفضل لتمثيل الأقليات, وتمكين المرأة والدفع بالشباب والعناصر المتميزة فكريا وعلميا كي تصبح السلطة التشريعية جهازا رقابيا حقيقيا يحتوي الكفاءات ويضم الخبرات ويقدم لبلده أفضل ما لديه, وقد رأي فريق ثالث غير ذلك تماما من منطلق أن اختيار الجماهير مهما كان هو انعكاس للناخبين أنفسهم, وهو تأكيد للمعني المقدس من أعمالكم سلط عليكم أو النص القرآني الكريم لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم, فالذين يفوزون في الانتخابات هم تعبير حقيقي عن المجتمع وجماهير الشعب دون حاجة إلي مزيد من الفلسفة للدوران حول أفضل أداة ديمقراطية معاصرة, أو الهروب من نتائجها مهما يعتورها من سلبيات ويلحق بها من ملاحظات إذ أنها تبقي في النهاية الأسلوب الأمثل لتحقيق تداول السلطة ودوران النخبة وتفعيل أدوات الديمقراطية الحديثة, وتوسيع مساحة المشاركة السياسية للجميع بغير استثناء.. والآن دعنا نقلب في تلك الأفكار المتضاربة أحيانا والمتسقة غالبا حول مفهوم الانتخابات وموقعها من قضية الديمقراطية ونوجز ذلك فيما يلي:
أولا إننا نؤكد حقيقة طرحتها تقاليد الحضارة العربية الإسلامية وتقاليد الحضارة الغربية المسيحية معا, وهي تلك التي تنطوي علي أهمية الشوري في الإسلام وانتخاب القيادات بأسلوب الديمقراطية الغر بية أيضا, وذلك بدءا من اجتماع سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة الراشد الأول بعد رحيل المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وصولا إلي عمليات الاقتراع بمعناها المستحدث وأساليبها التي تعتمد علي التقنية الحديثة, ولكننا نعترف في الوقت ذاته بأن الديمقراطية هي ابنة شرعية للثقافة الهيلينية في اليونان القديم, وفي إطار دولة المدينة, فلقد قدم اليونان القدماء في أثينا وأسبرته للبشرية إرهاصات الديمقراطية المبكرة والدورات الأوليمبية أيضا!
ثانيا: ترتبط العملية الانتخابية بالبيئة الثقافية المحيطة والمناخ السياسي القائم, وذلك فإن العملية الانتخابية هي ابنة شرعية للمجتمعات المختلفة بخصائصها وما تملك من مزايا وما تضم من سلبيات, إذ لا يمكن أن نتصور انتخابات شفافة بنظام سياسي متخلف, ولا يمكن أن تكون هناك انتخابات فاسدة في دولة تتمتع بأجواء الحرية والاستقرار والسلام الداخلي, إن الارتباط بين صناديق الاقتراح وبين طبيعة النظام السياسي هو ارتباط وثيق لا نستطيع الفكاك منه.
ثالثا: إن شيوع الأمية بمعناها المباشر وتهاوي نظام التعليم والفقر الثقافي والتشويش الإعلامي هذه كلها أسباب تحجب شفافية التطبيق الديمقراطي وتؤثر علي حرية الناخب وتمس إرادته حتي وإن لم يشعر بذلك مباشرة, إنني ممن يظنون أن العلاقة ليست سلبية بين الديمقراطية والفقر, كما أنها ليست ايجابية أيضا مثلما هو الأمر في العلاقة بين الديمقراطية والوعي السياسي بمعناه الثقافي والإنساني, فدولة الهند التي تمثل واحدة من كبري الديمقراطيات في العالم المعاصر ـ إن لم تكن أكبرها علي الإطلاق ـ ازدهرت ونمت برغم الفقر الذي يعاني منه الأغلب الأعم من الشعب الهندي, وأنا أتحدث هنا عن تجربة مباشرة لسنوات أربع قضيتها في أحضان تلك الأمة العظيمة.
رابعا: إن الحالة المصرية هي نسيج وحدها ولا يعني ذلك أن الديمقراطيات تختلف اختلافا جذريا من بلد لآخر, لأن هناك قاسما مشتركا من العوامل لا يمكن تجاهلها, ولكن تبقي مع ذلك خصوصية التجربة وما تتصف به من ميزات قد لا تكون بالضرورة هي تلك الموجودة عند تجارب نظيرة, فالمشاركة السياسية هي نتاج لعاملي الزمان والمكان والتقاء المحورين الأفقي والرأسي, الجغرافيا والتاريخ, يضاف إليهما التراث الاجتماعي ومنظومة القيم والتقاليد التي تدين بها جماهير الناخبين بالولاء والانتماء.
خامسا: عندما قامت ثورة يوليو عام1952 نصت في مبادئها الستة علي إقامة حياة ديمقراطية سليمة, ولكن الذي حدث أن تلك الثورة قد خرجت عن إطار التعددية واعتمدت أسلوب التنظيم السياسي الواحد بديلا للحياة الديمقراطية السليمة, ولقد ساعدت الكاريزما الشخصية للرئيس جمال عبدالناصر في تعزيز أحادية التنظيم ومركزية السلطة لزعيم كانت شعبيته كاسحة قبل نكسة.1967
سادسا: إن أخطر ما يواجه الحياة الديمقراطية المصرية المعاصرة هو ذلك الخلط المفتعل بين الدين والسياسة, فنحن نرحب بالاشتباك بين الدين والمجتمع, ولكننا لا نتحمس أبدا لخلط الدين بالسياسة, فذلك مزيج مفتعل القصد منه دغدغة مشاعر الجماهير والعزف علي أوتار تدينها التاريخي الذي عرفته مصر منذ فجر التوحيد, كما أن الشعارات الاستبعادية للآخر, والتي تتصف بأحادية التوجه تلعب هي الأخري دورا حاكما في تقليص مساحة المشترك الثقافي وتقلل من تأثير العامل الإنساني المهم في الحياة السياسية المعاصرة.
سابعا: يلعب المال دورا متزايدا في العملية الإنتخابية خصوصا في العقدين الآخرين حتي أصبح شراء الأصوات أمرا واردا في معظم الدوائر الانتخابية خصوصا في ظل شهية رجال الأعمال للانضمام إلي مؤسسة البرلمان تمتعا بالحصانة ورغبة في توظيف إمكاناتهم المادية لخدمة أهداف تتصل بالثروة وتنمية استمرارها, ولا يعني ذلك أن كل رجال الأعمال علي هذه الشاكلة, فالأغلب الأعم منهم يسعي لعضوية البرلمان من أجل خدمة الوطن والإسهام في رفع راياته.
ثامنا: إن ظهور العصبيات الجهوية والانتماءات العائلية وتأثيرها علي العملية الانتخابية خصوصا في الريف والمدن الصغيرة هي الأخري ظاهرة سلبية في حياتنا النيابية, حتي أصبحت البلطجة نموذجا يعتمده البعض للحصول علي المقعد النيابي, ودعم مواقعهم العائلية والقبلية, خصوصا في الريف المصري وفي الصعيد بوجه خاص.
تاسعا: إن الشخصيات ذات التعليم الجيد والمستويات الثقافية المرتفعة تنأي بنفسها عن الهبوط إلي ذلك الدرك المنخفض الذي تصنعه أجواء الانتخابات, وبذلك تختفي الكوادر المطلوبة للعمل التشريعي والرقابي في ظل رؤية سياسية واضحة, كما أن الذي يحدث فعليا هو أن مصر تعاني من ضعف النظام الحزبي, فالكوادر قليلة والتربية السياسية شبه منعدمة علينا أن نقبل بالواقع مهما كانت صلتنا بالماضي والحنين إليه.
عاشرا: لم تعرف مصر الحزب السياسي واسع الانتشار الذي يبدأ صعودا من القواعد مثلما حدث مع حزب الوفد المصري في الفترة الليبرالية بين الثورتين(19 ـ1952) وهو الأمر الذي مازالت تعيش علي رصيده أحزاب سياسية وتجمعات شعبية, ويري البعض ـ خصوصا أساتذة القانون الدستوري ـ أن ضعف الأحزاب هو تعتيم علي حق الأغلبية, ومصادرة علي الرأي, بل وحرمان من الحقوق السياسية في مجملها.
هذه ملاحظات عشر ندخل بها فضاء ساحة الانتخابات العامة المنتظرة ونحن ندرك أكثر من أي وقت مضي أهمية السعي الجاد لترسيخ الديمقراطية الحقيقية التي هي الخلاص الوحيد لأمة تراكمت عليها أحداث التاريخ, وعطلت مسيرتها أصداؤه الواسعة, إن الانتخابات النيابية والرئاسية هي اختبار لقدرات الديمقراطية المصرية حتي نستطيع أن نباهي بأجواء الحرية في ظل أحاديث لا تتوقف عن المستقبل, واحتمالاته المختلفة, وإرهاصاته التي تبدو في الأفق القريب.
جريدة الأهرام
18 مايو 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/170/2010/5/18/4/20791.aspx