يومٌ لا أنساهُ أبدًا.. إنه ليس عيد ميلاد لى أو لزوجتى، أو حتى ابنتى الصُّغرى، ولكنه عيد ميلادنا الفعلى؛ نتيجة ما جرى فى ذلك اليوم شديد البرودة فى شمال (النمسا)، عندما دعت وزارة الخارجية السفراء الأجانب المُعتمدين فى (فيينا) إلى الرحلة الشتوية السنوية لتوثيق العلاقة بين وزارة الخارجية النمساوية وأعضاء السلك الدبلوماسى الأجنبى وأسرهم.
ولبَّيت الدعوة باعتبارى سفيرًا لـ(مصر) ومندوبًا مُقيمًا لدى (الوكالة الدولية للطاقة الذرية)، ومضت بنا الأتوبيسات الضخمة تشقُّ طريقها فى ذلك الجو البارد نحو المنطقة التى نزورها وتتركَّز أحداث الرحلة فيها، ونزلنا على قمَّة أحد الجبال ليكون انتقالنا إلى قمة الجبل الآخر بـ(التلفريك) الكهربائى -ولم يكن صُندوقًا مُغلقًا أو حُجرةً زجاجيةً كالمُعتاد- وكان عبارة عن حصانٍ معدنى يسع شخصًا واحدًا يتَّصل بالموصِّل الكهربائى ويتَّجه من ارتفاع إلى ارتفاع آخر، بينما تبعُد الأرض عن ذلك الارتفاع الشاهق بما لا يقل عن مائتى متر.
وبدأ طابور الانتقال للحاضرين من رجال ونساء نمساويين وأجانب عبر ذلك (التلفريك) الذى يكاد يكون بدائيًّا بسبب بساطته، فهو مفتوح يجعل راكبه يكاد يتجمَّد بردًا ورُعبًا فى نفس الوقت. ومضى الطابور أمامنا، ثم جاء ترتيب زوجتى، تليها ابنتى، ثم أنا وراءهما، وأهمل العامل الفنى المسئول، فلم يُغلق الجانبين المعدنيين حمايةً للراكب، فمضت زوجتى دون أن تتنبَّه لذلك، وتبعتها ابنتى، وفعلت نفس الشىء بعدهما، ولم ندرك أن هناك حزامًا للأمان يجب إغلاقه، وتحرَّكنا فى سرعةٍ دون أن نتنبَّه لذلك، وكان خطر السقوط يُلاحقنا كل لحظةٍ، بينما الباقون على الأرض يصرخون مُنبِّهين، ولكن لا حيلة لنا فى ذلك والسلك الكهربائى يدفع (التلفريك) بسرعةٍ.
كانت لحظاتٍ من الرعب الحقيقى، حيث صافحنا الموت تقريبًا، وكنا أقرب إليه من قُربنا للحياة، وانتهت المأساة.
ولقد تحلَّت زوجتى وابنتى بـ(شجاعة الجهل) لأنهما لا تعلمان الخطر الذى أحدق بنا، أما أنا فقد قضيتُ تلك الدقائق مُنهارًا تمامًا، ولو نظرت إلى سفح الجبل لسقطتُّ إليه فى الحال، ثم كانت المأساة الحقيقية عندما انقطع التيار الكهربائى فجأةً لعدة دقائق أخرى فى منتصف المسافة، وكانت يداى مُتجمَّدتين من البرد، وعيناى تنظران بلا وعى أمامى إلى ابنتى وزوجتى، وكانت لحظاتٍ من الرعب الحقيقى، حيث صافحنا الموت تقريبًا، وكنا أقرب إليه من قُربنا للحياة، وانتهت المأساة بوصولنا بعد ما يزيد على اثنتى عشرة دقيقة كُنا فيها مُعلَّقين بحقٍّ بين الدنيا والآخرة، ونقف على حافة الموت بشهادة من كانوا فى الضفة التى تركناها، والضفة التى وصلنا إليها أيضًا، حيث استقبلونا بالتهنئة لوصولنا سالمين -بإرادة الله وحده- بعد ذلك الموقف العصيب كدتُّ أتجمَّد بردًا، وأصبحت أصابع يدىَّ غير قادرةٍ على الحركة، فالبرودة والذعر معًا يخلقان شعورًا لا يتصوره أحد.
وقد صمَّم المسئول عن الرحلة فى الخارجية النمساوية على إجراء تحقيق مع العامل الذى كان يُغلق حزام كل (تلفريك) على راكبه ونسى ذلك بالنسبة لزوجتى وابنتى وأنا، ثم قرر الجميع تحاشى العودة بذلك الموصِّل الخطير واستخدام السيارات والدوران بها فى طريق أطول يصل بين قمة الجبلين.
وكلما تذكَّرت ذلك اليوم وتلك اللحظات العصيبة شعرتُ أن السادس عشر من يناير عام 1996 كان عيد ميلاد جديدًا لنا نحن الثلاثة، وقد أخذنا المستقبلون نحو المدفأة، وبدأت المشروبات الدافئة تنهالُ علينا مع مشاعر الدهشة وعبارات التهنئة لبقائنا أحياءً بعد تلك المغامرة الرهيبة.
وعندما عُدتُّ إلى العاصمة (فيينا) اتَّخذتُ عدة قرارات بينى وبين نفسى؛ أولها أن أسمح لابنتى خريجة (الجامعة الأمريكية) بالعودة إلى مصر؛ لأنها لم تكن متحمسةً للحضور معى أنا وزوجتى، حيث كانت شقيقتها الكبرى متزوجةً من دبلوماسى وموجودةً فى الخارج، فآثرنا أن نصطحب ابنتنا الباقية معنا إلى مقر عملنا فى العاصمة النمساوية، ولم تكن هى راغبةً فى ذلك على الإطلاق، فآثرت أن تعود إلى أرض الوطن، خصوصًا أنها كانت تعيش قصة حُبٍّ مع زميلٍ لها هو زوجها حاليًا. أما القرار الثانى فهو ألا أمضى فى رحلة إلا إذا درست تفاصيلها مهما كانت الإجراءات. الأمر الثالث أن أتقدَّم أنا فى كل خطوةٍ أثناء الرحلات سابقًا من معى من الأسرة؛ لأنه من المعروف عنى أننى (نِمَكِى) شديد الحرص بالغ الاحتياط.. إنها قصة يوم مهول لا أنساه أبدًا!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 209
تاريخ النشر: 20 يناير 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/16-%d9%8a%d9%86%d8%a7%d9%8a%d8%b1-1996-2/