التاريخ الصحيح جزء من الحقيقة الكاملة لا يمكن اختزاله أو إسقاط فترات منه أو المرور عليها مرور الكرام، فالتاريخ هو سجل الحياة وسبيكة الزمان والمكان ولقد اقلقني كثيرا في الشهور الماضية أننا نخلط بين رفضنا لعصر مضي وبين إنكارنا لوجوده.
لذلك فإنني لم استرح كثيرا لعملية طمس التاريخ ومحو بعض الأسماء منه، فأنا لا أختلف مع جمهرة الناس في أن الإسراف في وضع اسم الرئيس السابق وقرينته علي الهيئات والمؤسسات والمدارس والمستشفيات كان أمرا ملحوظا وممجوجا لكن تسمية بعض محطات المترو برؤساء مصر السابقين يبدو أمرا مختلفا.
فأنا مع إدانة الحقبة بالكامل ولكنني ضد إنكار وجودها وإسقاطها من مسيرة التاريخ، فالأمر يستوجب وقفة موضوعية نقارن فيها بين ما نفعله وما فعلته شعوب أخري وهي تدين بعض زعاماتها المرفوضة وعهودها الفاسدة إذ إن العبرة دائما تكون بالتفرقة بين السرد الموضوعي للتاريخ، وبين الإنكار الأحمق لأحداثه، والآن دعنا نفصل ما نريد أن نذهب إليه:
أولا: إن من تقاليد الأمم والشعوب عندما تغضب علي حكامها وتزيحهم من مواقعهم وتخلعهم من مناصبهم أنها قد تنتقم، فالثورة الفرنسية أعملت المقصلة لسنوات حتي عاش الفرنسيون في فوضي عارمة لعقود عدة انقسم فيها الثوار علي أنفسهم وأعملوا التقتيل والذبح فيما بينهم، كما أن الثورة البلشفية التي أقامت الاتحاد السوفيتي السابق قد عرفت الإعدامات والتصفيات الجسدية بشكل غير مسبوق، حتي أن ستالين وحده معلقة في رقبته دماء الملايين، ولكن الملاحظ أن هذه الدول برغم قسوة ردود فعلها لم تنكر التاريخ وإن تنكرت له ولم تمحو الحقب وإن أدانتها، لذلك فإن إزالة ثلاثين عاما من ذاكرة المصريين هي تصرف بدائي مردوده سلبي علي الوطن وأجياله القادمة، فالأولي بنا أن نعترف بوجود تلك المرحلة بشرورها وأحداثها ومرها وحلوها، ولنتذكر أن الأمم المتحضرة ظلت تحتفظ بأسماء بعض رموزها حتي وإن أدانتهم وذهبت بهم إلي المقصلة، إن طريق كرومول الذي ثار علي الملكية وأعدم هو أطول شوارع لندن، حيث يخترق العاصمة البريطانية من طريق المطار إلي وسط المدينة، ولقد عتبنا علي ثورة يوليو 1952 أنها رفعت أسماء الشوارع والميادين في محاولة لمحو الحقبة الملكية ولكنها لم تفلح إذ أزالت أسماء شوارع فؤاد وملك مصر والسودان والملكة نازلي وسليمان باشا وغيرها من الطرق والميادين ولا أظن أن ذلك كان تصرفا حميدا لأنه أغري ضعاف النفوس بعد ذلك بالسطو علي القصور الملكية ومقتنيات العرش العلوي!
ثانيا: إن زيارة قصيرة للكرملين في موسكو تظهر بجلاء كيف حافظ الروس علي رموز عهد مضي بحيث مازال العصر القيصري جزءا لا يتجزأ من تاريخهم الطويل وبقيت قصوره ومحتوياته سليمة، بل لقد عاد الروس مرة ثانية إلي اسم المدينة الرائعة بطرس بيرج حيث يقف متحف الإرميتاج الفريد من نوعه وحذفوا اسم لينين جراد بعد عدة عقود، فالأمم لا تنكر ماضيها والشعوب لا تمحو تاريخها، ولكنها تقوم بعملية مراجعة عادلة لما له وما عليه، وقد تكون هناك عصور سوداء في تاريخ الدول ولكنها تظل جزءا لا يتجزأ من تاريخها تستمد منها العبرة وتستخلص الدروس لتصلح الحاضر وتبني المستقبل.
ثالثا: إن العبث بالتاريخ هو مغامرة غير محسوبة، فالتاريخ قد يعيد نفسه، ولكن بأساليب مختلفة وصور متعددة لذلك فإن الأمم الواعية تحترم تاريخها الذي هو جزء لا يتجزأ من عمرها ونسيج وجودها مهما تكن مرارته ومهما تزد قسوته، ولقد كتب الفيلسوف المصري الراحل فؤاد زكريا مقالا شهيرا ذات يوم بعنوان (دهاء التاريخ) ضمنه فلسفة التناقض عند محاولة فهم الأحداث وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من غشاوة علي العقول والقلوب بحيث تصاب الشعوب بعمي الألوان فتسقط من مدي إبصارها كل ما هو حالك السواد ولا تري من ماضيها إلا أمجادا زائفة تتغني بها صباح مساء هنا يكمن الخطر، فإلغاء الألقاب ونزع صفحات من كتب التاريخ وتحطيم النصب التذكارية وتغيير أسماء الشوارع إلا في حدود معينة هي أمور شكلية لا تخفي علي الوطني الواعي، مع تسليمنا في الوقت ذاته بأن أنانية بعض الحكام وحجم النفاق الهائل لهم قد جعلتهم يضعون أسماءهم في كل مكان وكأنما تصوروا أنهم خالدون بينما الخلود لله وحده.
رابعا: إن عصر مبارك هو عصر الرؤية الغائبة والفكرة الضائعة والضباب في كل مكان ومع ذلك فلابد من دراسته دراسة أمينة تتسم بالموضوعية والقدرة علي التأمل المحايد لمعرفة حجم الأخطاء والفرص الضائعة والكوارث القابعة حتي يستنير الناس في مستقبلهم بما افتقدوه في ماضيهم، فالشعوب لا يبنيها النفاق ولا الرياء ولا المواربة ولكن تبنيها المصداقية والوضوح والقدرة علي تحديد الأهداف.
خامسا: إننا نسلم بأن العقود الثلاثة الماضية تمثل تجريفا كاسحا لقدرات الوطن وموارده طبيعية وبشرية، كما أنها كانت تقويضا واضحا للشخصية المصرية والهوية القومية فخرج منها المصريون في حالة تشرذم غير مسبوق، وانفلات غير معهود، وإحساس بأنهم كانوا في غيبوبة تحت وطأة النظام السابق وآلته الأمنية التي كانت قوية في الظاهر ولكنها كانت مجردة من المنطق الوطني والولاء لفكرة تسعي نحوها أو مبدأ تعمل من أجله.
سادسا: إنه برغم تسليمنا بكل ما مضي فإن التاريخ يبقي تاريخا لأن هناك فارقا بين النظرة الموضوعية والتقويم الأخلاقي لعهد معين، فالأولي مجردة والثاني نسبي يخضع للميول السياسية والأفكار والمعتقدات، ونحن نفضل أن نعتمد علي العقل قبل القلب وأن نستخدم مفاتيح التحليل السياسي العلمي بدلا من الأقفال المغلقة للصناديق الفولاذية التي تحتوي علي الأسرار والمواقف والأخبار وتمضي بها في زوايا النسيان فلا الشعب تعلم ولا الأمة أدركت، إن هناك فارقا كبيرا بين كراهية الأزمنة وبين إسقاطها كما أن هناك اختلافا بين رفض الأنظمة والخروج منها بعبر الزمان ورؤي المستقبل.
سابعا: إن وعي الشعب المصري بتاريخه الطويل وعمره العجوز قد جعله يري في ماضيه عصورا مظلمة بل قرونا من التخلف، ومع ذلك خرجت مصر في النهاية بقامتها العالية ومكانتها السامقة، فالنيل يجري والأهرام لا تشيخ، فالتاريخ وحدة متكاملة لا تقبل التجزئة ولا تحتمل الإنكار ولا تمضي مع النسيان.
جريدة الاهرام
6 مارس 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/829/2012/3/6/4/135312.aspx