تحدثنا كثيرا في السنوات الأخيرة عما نطلق عليه غياب المشروع القومي أو التقصير في حشد الأجيال الجديدة صوب هدف مشترك يحفز الهمم ويقوي الشعور بالانتماء ويدفع نحو آفاق مستقبلية واعدة.
ويتذكر الناس سنوات الحماس التي صاحبت ذلك المشروع القومي الكبير وهو' بناء السد العالي' وما تواكب معه من معارك عسكرية ودبلوماسية انصهرت بها إرادة الأمة كما تألقت معها مشاعر الجماهير, ولقد ألحت علي دائما خواطر ضاغطة توجهني نحو التفكير في مشروعات وطنية كبري يلتف حولها الناس ويعمل من أجلها كل من ينتمي إلي الوطن المصري, وقد وجدت أمامي مباشرة مشروعين وطنيين كبيرين لا يحتاجان إلي جهد إعلامي أو نشاط سياسي حتي يلتف الناس حولهما وهما' المشروع القومي لتعمير سيناء' و'مشروع إزالة الألغام من الصحراء الغربية', ويجب أن أعترف للصديق العزيز د.' حسام بدراوي' بأنه مسئول عن مزيد من التحريض تجاه ما ذكرناه فقد دعانا_ صفوة من جيلين مختلفين حتي كنت تري في ذلك اللقاء الآباء وأبناءهم يتحاورون_ وكان اللقاء ثريا عندما طرح د.'بدراوي' تصوره الشامل لرؤية متكاملة تسعي لتنمية ضفتي' قناة السويس' وتحويلها إلي مجتمعات نامية فيها الصناعة والسياحة والزراعة و'تجارة الترانزيت' وبيع الخدمات, وهذا التصور لو تحقق فإنه ينقل' مصر' اقتصاديا نقلة نوعية كبيرة, ولقد سألت' د.بدراوي' يومها كيف لم يفطن المصريون منذ عام1869 حتي الآن إلي أن' قناة السويس' يجب ألا تكون مجرد ممر مائي فقط ولكنها تتجاوز ذلك بكثير لكي تكون قاطرة لتمنية الوطن كله؟ وكان' د.بدراوي' يرد بحماس العالم ووطنية المصري الذي يحمل علي كاهله جزءا من هموم الوطن يشغل فكره ويشعل لديه شرارة التفكير المبتكر والرؤية الشاملة اعتمادا علي الإرادة الجماعية للمصريين كما عاهدناهم دائما, وأحب أن أنوه هنا إلي أن أفكار وآراء أبنائنا وبناتنا ممن حضروا اجتماع' د.حسام بدراوي' كانت رائدة ورائعة, وأنا أبشر هنا بأن الأجيال الجديدة لديها من الإمكانات مالا نتوقعه.. أعود إلي المشروعين الوطنيين الكبيرين اللذين أريد لهما أن يجتاحا ساحة الوطن بدلا من الثرثرة السياسية واللغو العام اللذين يسيطران علي حياتنا أحيانا, وإن كنت أشير هنا بضمير وطني صادق إلي ضرورة مواصلة ضرب الفساد في كل نواحي حياتنا وتنقية مسيرتنا كما ارتضيناها في لحظة البداية, فالوطن أغلي وأشرف وأكبر من كل الممارسات المشبوهة أو التصرفات اللا مسئولة والأخطاء المتكررة, وإذا كنا نتحدث عن مشروعي' تعمير سيناء'' ونزع الألغام من صحرائنا' فإن ذلك يقودنا إلي النقاط التالية:-
أولا ـ إن تعمير' سيناء' مسألة طال الحديث فيها وكثرت المشروعات حولها وتناثرت الأفكار بشأنها ومنذ استعادت مصر ترابها الوطني الكامل عام1982 ونحن نتحدث في كل المناسبات عن' سيناء' وتعميرها وإعادة تأهيلها لكي تكون منطقة جاذبة للمصريين في استثمارات صناعية وزراعية وسياحية لا تقف عند عدة مزارات علي شاطئ البحر مهما كانت قيمة تلك المزارات وروعتها, إلا أن وسط' سيناء' الخالي يحيلها إلي مرتع للطامعين وجزء من مخطط الحاقدين علي' مصر' وترابها الوطني, لذلك فإن قضية تعمير' سيناء' ليست قضية تتعلق فقط بالتنمية والاستثمار ولكنها تتعلق بأمن' مصر' القومي ومستقبل السلام علي أرضها فقد جاءتنا معظم الغزوات تاريخيا من ذلك المدخل الآسيوي في شبه جزيرة' سيناء' ولن يكون الدفاع عنها بالوجود العسكري وحده لأننا نعلم جميعا أن المناطق الآهلة بالسكان تكون عصية علي الغزاة ممن يريدون بالوطن سوءا وينظرون إليه حقدا وطمعا.
ثانيا ـ إننا لا نعرف علي وجه اليقين الأسباب التي أدت إلي تأخير تنفيذنا لبرنامج وطني طموح لتعمير سيناء فهل هو التقاعس الذي أصاب حياتنا عموما؟ أم هي والعياذ بالله ضغوط خارجية لا تري في مصلحتها تعميرا لهذه الأرض الطيبة التي تحدث من فوقها' كليم الله موسي عليه السلام' فهذه القوي الخارجية تستمرئ فراغ سيناء وخلو عمقها من التجمع السكاني وتعول دائما علي سوء التوزيع الديموغرافي في' مصر' الذي يترك' سيناء' دائما خالية رغم الزيادة السكانية التي يعاني منها الوطن ورغم وجود الخبرات الوطنية القادرة علي إدارة مشروع قومي واسع لتعمير' سيناء' خصوصا أننا يجب ألا نقف عاجزين أمام ندرة المياه أو أمام تمسك الفلاح المصري بأرضه الغالية في الدلتا والصعيد لأن عليه أن يدرك أنه عندما يذهب إلي' سيناء' فإنه يؤدي واجبا وطنيا قبل أن يحقق عائدا استثماريا.
ثالثا ـ إنني لا أفهم كيف تكتظ الخريطة المصرية بالسكان في محاولة للنمو رأسيا دون الامتداد الأفقي في صحرائنا الواسعة غربا وشرقا وفي مقدمتها صحراء' سيناء' التي استطعنا أن نحقق لها التحرير الكامل ولكننا لم نتمكن من الاتجاه نحو التعمير الشامل, وعلي الرغم من أنني لست متخصصا في الشئون الزراعية والصناعية إلا أنني أظن أن زراعات معينة تبدو مبشرة بالخير إذا ما غزونا بها' سيناء' واضعين في الاعتبار أن هناك بحيرات ضخمة من المياه الجوفية وأن صحراء' سيناء' ورمالها تربض تحتهما بحيرات من المياه الصالحة للأحياء وللري وللزراعة فضلا عن ثراء' سيناء' تلك المنطقة بالمعادن النادرة فهي بحق' أرض الفيروز'.
رابعا ـ يجب أن نعترف هنا أيضا بأننا لم نحسن التعامل مع' بدو سيناء' وهم شريحة لا تتجزأ من نسيج الوطن كما أننا لم نتعرف علي كيمياء التعامل الصحيح معهم, فالبدوي قد يختلف عن فلاح الدلتا أو صعيدي الوادي في أسلوب التعامل وطريقة احتوائه مواطنا يشعر بأحضان الوطن الدافئة بدلا من شائعات التخوين والإساءة إلي من كانوا رصيدا وطنيا عبر العصور, ولن يتحقق تعمير' سيناء' إلا بتضافر جهود كل أبنائها فعندما ينتقل إلي وسطها فلاح' المنوفية' وعامل' سوهاج' تكون تلك هي إشارة البدء في التعمير الحقيقي وإعادة التوزيع الديموغرافي لسكان مصر.
خامسا ـ إذا انتقلنا إلي مشروع' إزالة الألغام' فإنني أبدأ بتحية الوزيرة ـ ابنة الدبلوماسية المصرية وصاحبة الحضور الدولي المشهود_' فايزة أبو النجا' التي تقوم بإحياء الشعور الوطني تجاه إزالة الألغام من صحرائنا الغربية والتي تقدر مساحتها بخمس الخريطة المصرية كلها, فهي مزرعة القمح في العصر الروماني ونريد لها أن تعود خضراء كما كانت ترتفع فوقها أشجار الزيتون وحدائق الفاكهة وربما نستعيد مزارع القمح فيها مرة ثانية حتي يكون التصدير إلي' أوروبا' عبر الساحل المقابل مصدرا أساسيا للثروة المنتظرة وللحياة الأفضل, ولا أنسي جهد زميلي السفير' فتحي الشاذلي' معاون الوزيرة في هذا الشأن وهما يعترفان_ الوزيرة ومعاونها_ بالجهد الرائع لقواتنا المسلحة التي تقوم بالتنفيذ بكفاءة عالية وحرفية مشهودة ومساحة زمنية محددة, إنها القوات المسلحة التي لا تحافظ علي الأمن القومي فقط ولكنها ترعي المصلحة الوطنية العليا في كل اتجاه.
سادسا ـ إنني أظن أن موضوع الألغام يحتاج منا إلي حملة دولية تطالب فيها' مصر' من زرعوا تلك الألغام سواء من دول' الحلفاء' أو' المحور' في الحرب العالمية الثانية لكي يكفروا عن خطاياهم ويعتذروا للأرض المصرية من خلال تحملهم نفقات إزالة تلك الألغام فذلك أقل ما يقدمونه للشعب المصري الذي استباحوا أرضه وشوهوا صحراءه, وإذا كانت استجابة تلك الدول محدودة فإن اللجوء إلي القانون الدولي المعاصر قد يعطينا السند الملائم في ذلك.
سابعا ـ لقد اتصل بي صديقي الكبير الفقيه الدولي د.' نبيل العربي' عندما قرأ لي مقالا في هذه الصفحة منذ عدة أسابيع ولفتت نظره فيه فقرة عن ضرورة السعي للحصول علي اعتذار من' بريطانيا' وشركائها عن جرائم الحرب علي أرضنا وزراعة الألغام في تربتنا, فإذا كان' الطليان' قد اعتذروا للقائد الليبي وبلاده فإن علي' البريطانيين' أن يعتذروا عن مذبحة' دنشواي' عام1906 ومؤامرة العدوان الثلاثي بعدها بخمسين عاما, وليكن اعتذارهم بالمشاركة الكاملة في نزع الألغام وتغطية تكاليف تلك العملية الباهظة الثمن ويكفينا ما فقدنا فيها من أرواح وأطراف بشرية طارت في الهواء عند انفجار تلك الألغام في أشقائنا من بدو تلك المناطق المتاخمة لمسرح العمليات في الحرب العالمية الثانية, ولا يتذرع الحلفاء بأن' مصر' أعلنت الحرب مع حليفتها' بريطانيا' ضد' المحور' فواقع الأمر أن' مصر' لم تكن حرة الإرادة ولا كاملة السيادة ولن أستطيع أن أفتي في ذلك فالأحق به والأولي فقهاؤنا القانونيون وفي مقدمتهم د.' نبيل العربي' الذي توج مسيرة حياته العملية المضيئة بأن كان قاضيا في' محكمة العدل الدولية' امتدادا لاسمي المرحومين د.' عبد الحميد بدوي' ود.' عبد الله العريان'.
... تلك تصورات أطرحها بتجرد وموضوعية أمام الرأي العام المصري حتي نكثف الحملة الوطنية من أجل تعمير سيناء وإزالة الألغام من الصحراء الغربية بدلا من أن نتباكي.
جريدة الأهرام
4 مايو 2010
http://www.ahram.org.eg/Archive/156/2010/5/4/4/18647.aspx