الفن لغة عالمية، كما أن الموسيقى ذوق إنسانى عام، لذلك فإن فنون الشعوب تنم عن شخصيتها، وتكشف عن هويتها، وتفصح عن درجة الرقى التي بلغتها، والفنون بكل أنواعها الموسيقية والتشكيلية والمسرحية والسينمائية وغيرها من الإيقاعات الإنسانية إنما تعبر عن حالة الانسجام بين النسب المختلفة في كل لون منها، كما أن النقد الفنى عندما يختلط بالعامل الإنسانى والمحيط البشرى فإنه يدفعنا بالضرورة إلى الأمام.
أنا شخصيًا أحرص كثيرًا على قراءة ما يكتبه ناقد فنى بحجم «طارق الشناوي» حتى إننى أرى في خلفيته ذلك العنصر البشرى الذي يتحرك بقوة ووضوح، فضلًا عن كم المعلومات الغزيرة التي تؤنس من يقرأ وتحرضه على تفكير أعمق، ولقد أسهب المفكرون والمؤرخون في الربط المباشر بين مناخ الحريات في جانب، والتفوق الفنى والتميز الإبداعى في جانب آخر، ويضرب أصحاب هذا الرأى أمثلة تعزز وجهة نظرهم، بينما هناك من يرد عليهم قائلًا: إن الفنون ازدهرت في «روسيا السوفيتية» رغم سياسات القمع وغياب الحريات.
والعصر الناصرى الذي يتحدث عنه البعض بلهجة سلبية فيما يتصل بمناخ الحرية والديمقراطية قد شهد هو الآخر ازدهارًا في الفنون، حتى إن كثيرًا من مؤسسات رعاية الفن والاهتمام به قد تكرست في ذلك العصر، ولعل اسمًا واحدًا هو «ثروت عكاشة» وإنجازاته المعروفة يختزل ما نشير إليه فـ(الدولة الكفاحية) والمشروع القومى أو حتى الوطنى هي بمثابة ماء الحياة التي تروى الفنون وتربى الآداب وتدفع بالشعر والموسيقى إلى الصفوف الأولى.
ولعلنا نتذكر الآن إنشاء «أكاديمية الفنون» وتفوق فن «البالية»، كما نذكر لتلك الفترة ازدهار الأغنية الوطنية ونتذكر أسماء مثل «عبدالرحمن الأبنودي» و«عبدالحليم حافظ» وغيرهما من رموز ذلك العصر، فالحشد الشعبى والتعبئة الوطنية ينعكسان على الآداب والفنون، لأنها تعبير إنسانى يعكس الحالة العامة والوضع الشامل والشعور الجمعى المشترك، ولا شك أن الاهتمام بالفن هو دليل على الرغبة في بناء الإنسان السوى الذي يكون الفكر والأدب والفن مكونًا أساسيًا في شخصيته، وعندما اقترن اسم وزير الثقافة مرتين بكلمة الفنان الأولى مع الوزير الأسبق صاحب الإنجازات الملموسة «فاروق حسنى»، والثانية مع الوزيرة الحالية الفنانة «إيناس عبدالدايم»- التي وعدتنى أن تعزف على مسرح «مكتبة الإسكندرية» وهى وزيرة- وأنا أشعر بسعادة عندما أرى الوزير يواصل المضى في مهنته ولا يخدعه بريق المنصب، فلقد كنت سعيدًا ذات يوم وأنا أركب طائرة «مصر للطيران»، وقيل لى إن الذي يقودها هو وزير الطيران المدنى وقتها، لأنه خبير في ذلك الطراز وقاد طائراته على امتداد حياته المهنية، ولابد أن أشير هنا إلى حالة العجز التي تصيبنا أحيانًا عندما يطالبنا الآخرون بحضور إحدى المناسبات بالزى الوطنى أو إبراز بعض معالم ثقافتنا، فلا نكاد نجد إلا (فن التنورة) الذي سئمنا رؤيته في كل مناسبة، رغم تقديرى للاعبيه والجهد الذي يبذلونه، كذلك فإنه لا توجد لنا رقصة شعبية تعبر عن الفولكلور المصرى في كل مكان، وهو أمر بالغ الأهمية، فالهنود- وقد عشت بينهم أربع سنوات- لديهم الزى الوطنى الذي يختلف من فصل إلى آخر، ولديهم الرقصات الشعبية التي يعرفون بها، فضلًا عن أن الشخصية الهندية شديدة التأثير واضحة المعالم، والغريب في الأمر أن الفنون قد ولدت على أرضنا، وأن الفكر المتميز بدأ من عندنا، كما أن الحضارة الفرعونية بآثارها تنطق فنًا وتكاد تقول فكرًا وتدعمنا تراثًا وكبرياءً، كما أن الخلفية الإغريقية الرومانية القبطية الإسلامية تعطينا درجة من التعددية تسمح لنا بأن نكون روادًا للفنون ورموزًا للآداب، خصوصًا أن مصر حملت مشاعل التنوير عبر العصور بشهادة الدنيا حولها واعتراف الجميع لها.. إن الأمر في إيجاز يتلخص في جملة واحدة، وهى: إن الفنون وعاء الثقافة ورصيد الإنسان في كل زمان ومكان.
جريدة المصري اليوم
15 أغسطس 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1315474