نعيش فى الماضى وأجوائه معظم الوقت، وننسى أو نتناسى أن الدنيا تجرى حولنا، هذه حملة على عبدالناصر تنطلق من نكسة يونيو 1967، وتلك حملة أخرى على السادات تراجع اتفاقيات كامب ديفيد وتنتقد سياساته الانفتاحية، وقبل الحملتين حملة أخرى على العصر الملكى، بدءًا من محمد على حتى فاروق تغمض العينين تمامًا عن إنجازات مائة وخمسين عامًا من تاريخ مصر الحديثة، فإلى متى سوف نظل أسرى الماضى مشدودين إلى أحداثه مستغرقين فى جدل عقيم وحوار سفسطائى لا جدوى منه، لأنه يعتمد دائمًا على كلمة (لو أن)؟! وحين ينظر المرء حوله إلى الدول التى تجرى بخطوات واسعة مثل الصين واليابان والهند وفيتنام وغيرها من الدول الآسيوية، وعندما ننظر أيضًا إلى دول مثل جنوب أفريقيا أو المغرب أو رواندا فى القارة الأفريقية فسوف نكتشف أن تلك الدول قد نفضت عن كاهلها غبار الماضى واتجهت نحو المستقبل فى ثبات ولم تلتفت وراءها كل يوم مثلما نفعل نحن فى المنطقة العربية وفى مصر تحديدًا حتى جرى إطلاق صفة (الماضوية) على الأمة العربية التى تلوك أحزانها وتجتر ذكرياتها وتردد دائمًا أبياتًا من ديوان الحماسة فى الشعر العربى تتغنى فيها بالأمجاد وتتمثل الماضى من جديد فتعيش فى إطاره وتظل حبيسة الأوهام لا الأحلام، محكومة بسياج منيع من عصور مضت ودول سادت ثم بادت ولم يبق منها إلا رائحة الذكريات، ولست أعنى بما أقول أننى أريد أن تنسلخ الأمة عن ماضيها، إذ لا مستقبل لمن لا يعرف ماضيه، خصوصًا أن خبث التاريخ يجعله يكرر أحداثه فى دهاء أحيانًا بسيناريوهات جديدة فلا داعى لإصرارنا على أن نعيش خارج دائرة العصر فى هجرة زمانية لا مبرر لها..
إننى أدعو الأجيال الجديدة لأن تعى التاريخ جيدًا وألا تعيش فيه أيضًا، أن تذكر الماضى ولكن لا تظل فى قبضته حتى تستطيع التقدم نحو آفاق المستقبل، ويلفت نظرى أنا وغيرى ممن يعنيهم الشأن العام أننا مقصرون فى الدخول إلى علوم المستقبل، بل إن لدينا مناعة طبيعية تقاوم كل ما لا نعرف تأكيدًا للمقولة (إن المرء عدو ما يجهل) وعندما أجلس أحيانًا فى حضرة بعض المفكرين الكبار والعلماء الثقات أجد أن العالم قد تغير بحق وأننا مازلنا أحيانًا نعيش فى عصر (جدول الضرب) وعندما يأتى وزير يحاول أن يتخذ طريقًا جديدًا نحو عالم المعرفة ودنيا المعلومات يتلقى هجومًا من اتجاهات متعددة بدوافع مصلحية أو الحرص على امتيازات فئوية أو رفض الجديد برمته لأنهم ارتاحوا إلى الأساليب القديمة حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من روتين حياتهم ورصيد أعمارهم، وأنا أنبه هنا إلى ملاحظتين مهمتين:
أولًا: إننا لا يجب أن نبدأ من حيث انتهينا بل يجب أن نبدأ بطريق مواز لما بدأه الآخرون فى العقدين الماضيين، فالثورة الإلكترونية والقفزة الهائلة فى وسائل الاتصال وشيوع بنوك المعرفة لم تعد تسمح فى مجملها بأن نوقف عقارب الساعة حتى نلحق بمن سبقونا نتيجة تمسكنا بالتحول البطىء الذى لا يعرف جدولًا زمنيًا ولا يؤمن بالنقلات النوعية وهذا يعنى أن علينا أن نبحث فى العلوم الحديثة بآخر الأساليب المتبعة وأن نمضى على طريق يؤمن بأن الغد أفضل من الأمس وأن اليوم هو جسر انتقال بينهما ولا داعى أيضًا للإفراط فى جلد الذات والتشكيك فى إمكانات الأجيال الجديدة، فأنا ممن يعتقدون عن يقين بأن الأجيال القادمة أفضل منا وعندما أتطلع إلى أحفادى وهم يتعاملون مع الأدوات الحديثة والتقنية المعاصرة أدرك أن الذين تحدثوا عن التدهور فى المستقبل واهمون، فكل جيل أفضل مما سبقه والدليل على ذلك أن الحياة تتطور إلى الأمام، وعندما كتب (ابن المقفع) منذ أكثر من ألف عام عن (فضل الأقدمين) وتباكى على المروءة والنبوغ والشرف إنما كان يعبر عن حالة نفسية تعيشها كل الأجيال، لأنها تقوم على الحنين إلى الماضى (نوستالجيا) تتعبد فى محراب اِلأجداد وتعيش فى جلباب الآباء ولا تنطلق نحو فكر الأبناء تمشيًا مع عقلية أصحاب المواكب القادمة إلى الدنيا فكل جيل لابد أن يأتيه وقت يلملم أوراقه ويسحب أعلامه ليعطى للقادمين حق الحياة وحرية الإبداع.
ثانيًا: إن الانفتاح على العالم أصبح فريضة عصرية ولا مجال للعزلة إذ لم تتمكن دولة من تشييد معالم مستقبلها بعيدًا عن التجربة الإنسانية العريضة حتى ولو جاءت من أعدائها، فإذا كان للعلماء أوطانهم فإن المعرفة لا وطن لها، وإذا كان (العم ماو) قد قال منذ عدة عقود وهو يقود أكثر من مليار نسمة فى الصين: (دع مائة زهرة تتفتح) فإننا نكرر: (دع كل زهورنا تنمو وتنضج لتنشر أريج الحياة على امتداد الوادى الخصيب ودلتاه)، وأنا ممن يؤمنون بأن الابتعاث هو المدخل الطبيعى للتقدم، هكذا قامت تجربة محمد على فى بناء مصر الحديثة، كذلك كان الابتعاث عكسيًا فى الحملة الفرنسية التى صحا العقل المصرى على دوى مدافعها ليقرأ التراث الفكرى والثقافى الذى تركته نتيجة جهد لأقل من ثلاث سنوات ترك بصماته الكبيرة على حياتنا الثقافية والفكرية حتى الآن، فالاحتكاك مع الآخر هو الذى يولد شرارة التقدم، والشعب المصرى لم يقم بحركاته الإصلاحية وقفزاته العمرانية إلا وعينه على الخارج، يتبادل معه التأثير والتأثر، وإذا كان فى مقدور بعض الدول أن تعيش فى عزلة عن غيرها فإن الأمر بالنسبة لمصر مستحيل بفضل الجغرافيا والتاريخ، فمصر دولة ملتقى لأنها تقف على الناصية الشمالية الشرقية للقارة الأفريقية فى مواجهة القارتين الآسيوية والأوروبية، فضلًا عن أنها أكبر دول جنوب المتوسط ورائدة العالم العربى فى لحظات انتصارها وانكسارها على السواء!
إن الانفتاح- أيها السادة- هو شرط لا يمكن تجاوزه، فنحن نعيش فى عالم يموج بكافة التيارات ومختلف الثقافات، فهو عصر المعرفة المشتركة والعلم الحديث وتدفق المعلومات بلا حدود ودون حواجز!.
جريدة المصري اليوم
29 أغسطس 2018
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1318517